فصل: الآية رقم ‏(‏ 16 ‏:‏ 17 ‏)‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **


 سورة الأعراف

 مقدمة

سورة الأعراف هي مكية، إلا ثمان آيات، وهي قوله تعالى‏{‏واسألهم عن القرية‏}‏الأعراف‏:‏ 163‏]‏ إلى قوله‏{‏وإذ نتقنا الجبل فوقهم‏}‏الأعراف‏:‏ 171‏]‏‏.‏ وروى النسائي عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في صلاة المغرب بسورة الأعراف، فرَّقها في ركعتين‏.‏ صححه أبو محمد عبدالحق‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 1 ‏:‏ 2 ‏)‏

‏{‏المص، كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين‏}‏

قوله تعالى ‏}‏المص‏}‏ تقدم في أول ‏}‏البقرة‏}‏ وموضعه رفع بالابتداء‏.‏ و‏}‏كتاب‏}‏ خبره‏.‏ كأنه قال‏{‏المص‏}‏ حروف كتاب أنزل إليك‏}‏ وقال الكسائي‏:‏ أي هذا كتاب‏.‏

قوله تعالى‏{‏حرج‏}‏ أي ضيق؛ أي لا يضيق صدرك بالإبلاغ؛ لأنه روي عنه عليه السلام أنه قال‏:‏ ‏(‏إني أخاف أن يثلغوا رأسي فيدعوه خبزة‏)‏ الحديث‏.‏ خرجه مسلم‏.‏ قال الكيا‏:‏ فظاهره النهي، ومعناه نفي الحرج عنه؛ أي لا يضيق صدرك ألا يؤمنوا به، فإنما عليك البلاغ، وليس عليك سوى الإنذار به من شيء من إيمانهم أو كفرهم، ومثله قوله تعالى‏{‏فلعلك باخع نفسك‏}‏الكهف‏:‏ 6‏]‏ الآية‏.‏ وقال‏{‏لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين‏}‏الشعراء‏:‏ 3‏]‏‏.‏ ومذهب مجاهد وقتادة أن الحرج هنا الشك، وليس هذا شك الكفر إنما هو شك الضيق‏.‏ وكذلك قوله تعالى‏{‏ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون‏}‏الحجر‏:‏ 97‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته‏.‏ وفيه بعد‏.‏ والهاء في ‏}‏منه‏}‏ للقرآن‏.‏ وقيل‏:‏ للإنذار؛ أي أنزل إليك الكتاب لتنذر به فلا يكن في صدرك حرج منه‏.‏ فالكلام فيه تقديم وتأخير‏.‏ وقيل للتكذيب الذي يعطيه قوة الكلام‏.‏ أي فلا يكن في صدرك ضيق من تكذيب المكذبين له‏.‏

قوله تعالى‏{‏وذكرى‏}‏ يجوز أن يكون في موضع رفع ونصب وخفض‏.‏ فالرفع من وجهين؛ قال البصريون‏:‏ هي رفع على إضمار مبتدأ‏.‏ وقال الكسائي‏:‏ عطف على ‏}‏كتاب‏}‏ والنصب من وجهين؛ على المصدر؛ أي وذكر به ذكرى؛ قال البصريون‏.‏ وقال الكسائي‏:‏ عطف على الهاء في ‏}‏أنزلناه‏}‏‏.‏ والخفض حملا على موضع ‏}‏لتنذر به‏}‏ والإنذار للكافرين، والذكرى للمؤمنين؛ لأنهم المنتفعون به‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 3 ‏)‏

‏{‏اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون‏}‏

قوله تعالى‏{‏اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم‏}‏ يعني الكتاب والسنة‏.‏ قال الله تعالى‏{‏وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا‏}‏الحشر‏:‏ 7‏]‏‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ هذا أمر يعم النبي صلى الله عليه وسلم وأمته‏.‏ والظاهر أنه أمر لجميع الناس دونه‏.‏ أي اتبعوا ملة الإسلام والقرآن، وأحلوا حلاله وحرموا حرامه، وامتثلوا أمره، واجتنبوا نهيه‏.‏ ودلت الآية على ترك اتباع الآراء مع وجود النص‏.‏

قوله تعالى‏{‏ولا تتبعوا من دونه أولياء‏}‏ ‏}‏من دونه‏}‏ من غيره‏.‏ والهاء تعود على الرب سبحانه، والمعنى‏:‏ لا تعبدوا معه غيره، ولا تتخذوا من عدل عن دين الله وليا‏.‏ وكل من رضي مذهبا فأهل ذلك المذهب أولياؤه‏.‏ وروي عن مالك بن دينار أنه قرأ ‏}‏ولا تبتغوا من دونه أولياء‏}‏ أي ولا تطلبوا‏.‏ ولم ينصرف ‏}‏أولياء‏}‏ لأن فيه ألف التأنيث‏.‏ وقيل‏:‏ تعود على ‏}‏ما‏}‏ من قوله‏{‏اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم‏}‏‏.‏ ‏}‏قليلا ما تتذكرون‏}‏ ‏}‏ما‏}‏ زائدة‏.‏ وقيل‏:‏ تكون مع الفعل مصدرا‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 4 ‏:‏ 5 ‏)‏

‏{‏وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون، فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين‏}‏

قوله تعالى‏{‏وكم من قرية أهلكناها‏}‏ ‏}‏كم‏}‏ للتكثير؛ كما أن ‏}‏رب‏}‏ للتقليل‏.‏ وهي في موضع رفع بالابتداء، و‏}‏أهلكنا‏}‏ الخبر‏.‏ أي وكثير من القرى - وهي مواضع اجتماع الناس - أهلكناها‏.‏ ويجوز النصب بإضمار فعل بعدها، ولا يقدر قبلها؛ لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله‏.‏ ويقوي الأول قوله‏{‏وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح‏}‏ ولو لا اشتغال ‏}‏أهلكنا‏}‏ بالضمير لانتصب به موضع ‏}‏كم‏}‏‏.‏ ويجوز أن يكون ‏}‏أهلكنا‏}‏ صفة للقرية، و‏}‏كم‏}‏ في المعنى هي القرية؛ فإذا وصفت القرية فكأنك قد وصفت كم‏.‏ يدل على ذلك قوله تعالى‏{‏وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا‏}‏النجم‏:‏ 26‏]‏ فعاد الضمير على ‏}‏كم‏}‏‏.‏ على المعنى؛ إذ كانت الملائكة في المعنى‏.‏ فلا يصح على هذا التقدير أن يكون ‏}‏كم‏}‏ في موضع نصب بإضمار فعل بعدها‏.‏ ‏}‏فجاءها بأسنا‏}‏ فيه إشكال للعطف بالفاء‏.‏ فقال الفراء‏:‏ الفاء بمعنى الواو، فلا يلزم الترتيب‏.‏ وقيل‏:‏ أي وكم من قرية أردنا إهلاكها فجاءها بأسنا؛ كقوله‏{‏فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم‏}‏النحل‏:‏ 98‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ إن الهلاك‏.‏ واقع ببعض القوم؛ فيكون التقدير‏:‏ وكم من قرية أهلكنا بعضها فجاءها بأسنا فأهلكنا الجميع‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى وكم من قرية أهلكناها في حكمنا فجاءها بأسنا‏.‏ وقيل‏:‏ أهلكناها بإرسالنا ملائكة العذاب إليها، فجاءها بأسنا وهو الاستئصال‏.‏ والبأس، العذاب الآتي على النفس‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى أهلكناها فكان إهلاكنا إياهم في وقت كذا؛ فمجيء البأس على هذا هو الإهلاك‏.‏ وقيل‏:‏ البأس غير الإهلاك؛ كما ذكرنا‏.‏ وحكى الفراء أيضا أنه إذا كان معنى الفعلين واحدا أو كالواحد قدمت أيهما شئت؛ فيكون المعنى وكم من قرية جاءها بأسنا فأهلكناها؛ مثل دنا فقرب، وقرب فدنا، وشتمني فأساء، وأساء فشتمني؛ لأن الإساءة والشتم شيء واحد‏.‏ وكذلك قوله‏{‏اقتربت الساعة وانشق القمر‏}‏القمر‏:‏ 1‏]‏‏.‏ المعنى - والله أعلم - انشق القمر فاقتربت الساعة‏.‏ والمعنى واحد‏.‏ ‏}‏بياتا‏}‏ أي ليلا؛ ومنه البيت، لأنه يبات فيه‏.‏ يقال‏:‏ بات يبيت بيتا وبياتا‏.‏ ‏}‏أو هم قائلون‏}‏ أي أو وهم قائلون، فاستثقلوا فحذفوا الواو؛ قاله الفراء‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ هذا خطأ، إذا عاد الذكر استغني عن الواو، تقول‏:‏ جاءني زيد راكبا أو هو ماش، ولا يحتاج إلى الواو‏.‏ قال المهدوي‏:‏ ولم يقل بياتا أو وهم قائلون لأن في الجملة ضميرا يرجع إلى الأول فاستغني عن الواو‏.‏ وهو معنى قول الزجاج سواء، وليس أو للشك بل للتفصيل؛ كقولك‏:‏ لأكرمنك منصفا لي أو ظالما‏.‏ وهذه الواو تسمى عند النحويين واو الوقت‏.‏ و‏}‏قائلون‏}‏ من القائلة وهي القيلولة؛ وهي نوم نصف النهار‏.‏ وقيل‏:‏ الاستراحة نصف النهار إذا اشتد الحر وإن لم يكن معها نوم‏.‏ والمعنى جاءهم عذابنا وهم غافلون إما ليلا وإما نهارا‏.‏ والدعوى الدعاء؛ ومنه قوله‏{‏وآخر دعواهم‏}‏يونس‏:‏ 10‏]‏‏.‏ وحكى النحويون‏:‏ اللهم أشركنا في صالح دعوى من دعاك‏.‏ وقد تكون الدعوى بمعنى الادعاء‏.‏ والمعنى‏:‏ أنهم لم يخلصوا عند الإهلاك إلا على الإقرار بأنهم كانوا ظالمين‏.‏ و‏}‏دعواهم‏}‏ في موضع نصب خبر كان، واسمها ‏}‏إلا أن قالوا‏}‏‏.‏ نظيره ‏}‏فما كان جواب قومه إلا أن قالوا‏}‏النمل‏:‏ 56‏]‏ ويجوز أن تكون الدعوى رفعا، و‏}‏أن قالوا‏}‏ نصبا؛ كقوله تعالى‏{‏ليس البر أن تولوا‏}‏البقرة‏:‏ 177‏]‏ برفع ‏}‏البر‏}‏ وقوله‏{‏ثم كان عاقبة الذين أساؤوا السوءى أن كذبوا‏}‏الروم‏:‏ 10‏]‏ برفع ‏}‏عاقبة‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 6 ‏:‏ 7 ‏)‏

‏{‏فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين، فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين‏}‏

قوله تعالى‏{‏فلنسألن الذين أرسل إليهم‏}‏ دليل على أن الكفار يحاسبون‏.‏ وفي التنزيل ‏}‏ثم إن علينا حسابهم‏}‏الغاشية‏:‏ 26‏]‏‏.‏ وفي سورة القصص ‏}‏ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون‏}‏القصص‏:‏ 78‏]‏ يعني إذا استقروا في العذاب‏.‏ والآخرة مواطن‏:‏ موطن يسألون فيه للحساب‏.‏ وموطن لا يسألون فيه‏.‏ وسؤالهم تقرير وتوبيخ وإفضاح‏.‏ وسؤال الرسل سؤال استشهاد بهم وإفصاح؛ أي عن جواب القوم لهم‏.‏ وهو معنى قوله‏{‏ليسأل الصادقين عن صدقهم‏}‏الأحزاب‏:‏ 8‏]‏ على ما يأتي‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى ‏}‏فلنسألن الذين أرسل إليهم‏}‏ أي الأنبياء ‏}‏ولنسألن المرسلين‏}‏ أي الملائكة الذين أرسلوا إليهم‏.‏ واللام في ‏}‏فلنسألن‏}‏ لام القسم وحقيقتها التوكيد‏.‏ وكذا ‏}‏فلنقصن عليهم بعلم‏}‏‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ ينطق عليهم‏.‏ ‏}‏وما كنا غائبين‏}‏ أي كنا شاهدين لأعمالهم‏.‏ ودلت الآية على أن الله تعالى عالم بعلم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 8 ‏:‏ 9 ‏)‏

‏{‏والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون، ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون‏}‏

قوله تعالى‏{‏والوزن يومئذ الحق‏}‏ ابتداء وخبر‏.‏ ويجوز أن يكون ‏}‏الحق‏}‏ نعته، والخبر ‏}‏يومئذ‏}‏‏.‏ ويجوز نصب ‏}‏الحق‏}‏ على المصدر‏.‏ والمراد بالوزن وزن أعمال العباد بالميزان‏.‏ قال ابن عمر‏:‏ توزن صحائف أعمال العباد‏.‏ وهذا هو الصحيح، وهو الذي ورد به الخبر على ما يأتي‏.‏ وقيل‏:‏ الميزان الكتاب الذي فيه أعمال الخلق‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ الميزان الحسنات والسيئات بأعيانها‏.‏ وعنه أيضا والضحاك والأعمش‏:‏ الوزن والميزان بمعنى العدل والقضاء، وذكر الوزن ضرب مثل؛ كما تقول‏:‏ هذا الكلام في وزن هذا وفي وزانه، أي يعادله ويساويه وإن لم يكن هناك وزن‏.‏ قال الزجاج‏:‏ هذا سائغ من جهة اللسان، والأولى أن يتبع ما جاء في الأسانيد الصحاح من ذكر الميزان‏.‏ قال القشيري‏:‏ وقد أحسن فيما قال، إذ لو حمل الميزان على هذا فليحمل الصراط على الذين الحق، والجنة والنار على ما يرد على الأرواح دون الأجساد، والشياطين والجن على الأخلاق المذمومة، والملائكة على القوى المحمودة‏.‏ وقد أجمعت الأمة في الصدر الأول على الأخذ بهذه الظواهر من غير تأويل‏.‏ وإذا أجمعوا على منع التأويل وجب الأخذ بالظاهر، وصارت هذه الظواهر نصوصا‏.‏ قال ابن فورك‏:‏ وقد أنكرت المعتزلة الميزان بناء منهم على أن الأعراض يستحيل وزنها، إذ لا تقوم بأنفسها‏.‏ ومن المتكلمين من يقول‏:‏ إن الله تعالى يقلب الأعراض أجساما فيزنها يوم القيامة‏.‏ وهذا ليس بصحيح عندنا، والصحيح أن الموازين تثقل بالكتب التي فيها الأعمال مكتوبة، وبها تخف‏.‏ وقد روي في الخبر ما يحقق ذلك، وهو أنه روي ‏(‏أن ميزان بعض بني آدم كاد يخف بالحسنات فيوضع فيه رق مكتوب فيه ‏}‏لا إله إلا الله‏}‏ فيثقل‏)‏‏.‏ فقد علم أن لك يرجع إلى وزن ما كتب فيه الأعمال لا نفس الأعمال، وأن الله سبحانه يخفف الميزان إذا أراد، ويثقله إذا أراد بما يوضع في كفتيه من الصحف التي فيها الأعمال‏.‏ وفي صحيح مسلم عن صفوان بن محرز قال قال رجل لابن عمر‏:‏ كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في النجوى‏؟‏ قال سمعته يقول‏:‏ ‏(‏يدنى المؤمن من ربه يوم القيامة حتى يضع عليه كنفه فيقرره بذنوبه فيقول هل تعرف فيقول أي رب أعرف قال فإني قد سترتها عليك في الدنيا وإني أغفرها لك اليوم فيعطي صحيفة حسناته وأما الكفار والمنافقون فينادى بهم على رؤوس الخلائق هؤلاء الذين كذبوا على الله‏)‏‏.‏ فقوله‏:‏ ‏(‏فيعطى صحيفة حسناته‏)‏ دليل على أن الأعمال تكتب في الصحف وتوزن‏.‏

وروى ابن ماجة من حديث عبدالله بن عمرو قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يصاح برجل من أمتي يوم القيامة على رؤوس الخلائق فينشر عليه تسعة وتسعون سجلا كل سجل مد البصر ثم يقول الله تبارك وتعالى هل تنكر من هذا شيئا فيقول لا يا رب فيقول أظلمتك كتبتي الحافظون فيقول لا ثم يقول ألك عذر ألك حسنة فيهاب الرجل فيقول لا فيقول بلى إن لك عندنا حسنات وإنه لا ظلم عليك اليوم فتخرج له بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله فيقول يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات فيقول إنك لا تظلم فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة فطاشت السجلات وثقلت البطاقة‏)‏‏.‏ زاد الترمذي ‏(‏فلا يثقل مع اسم الله شيء‏)‏ وقال‏:‏ حديث حسن غريب‏.‏ وسيأتي لهذا الباب مزيد بيان في ‏}‏الكهف والأنبياء‏}‏ إن شاء الله تعالى‏.‏ قوله تعالى‏{‏فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون‏.‏ ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون‏}‏ جمع ميزان، وأصله موزان، قلبت الواو ياء لكسرة ما قبلها‏.‏ وقيل‏:‏ يجوز أن يكون هناك موازين للعامل الواحد يوزن بكل ميزان منها صنف من أعماله‏.‏ ويمكن أن يكون ذلك ميزانا واحدا عبر عنه بلفظ الجمع؛ كما تقول‏:‏ خرج فلان إلى مكة على البغال، وخرج إلى البصرة في السفن‏.‏ وفي التنزيل‏{‏كذبت قوم نوح المرسلين‏}‏الشعراء‏:‏ 105‏]‏‏.‏ ‏}‏كذبت عاد المرسلين‏}‏الشعراء‏:‏ 123‏]‏‏.‏ وإنما هو رسول واحد في أحد التأويلين‏.‏ وقيل‏:‏ الموازين جمع موزون، لا جمع ميزان‏.‏ أراد بالموازين الأعمال الموزونة‏.‏ ‏}‏ومن خفت موازينه‏}‏ مثله‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ توزن الحسنات والسيئات في ميزان له لسان كفتان؛ فأما المؤمن فيؤتى بعمله في أحسن صورة فيوضع في كفة الميزان فتثقل حسناته على سيئاته؛ فذلك قوله‏{‏فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون‏}‏ ويؤتى بعمل الكافر في أقبح صورة فيوضع في كفة الميزان فيخف وزنه حتى يقع في النار‏.‏ وما أشار إليه ابن عباس قريب مما قيل‏:‏ يخلق الله تعالى كل جزء من أعمال العباد جوهرا فيقع الوزن على تلك الجواهر‏.‏ ورده ابن فورك وغيره‏.‏ وفي الخبر ‏(‏إذا خفت حسنات المؤمن أخرج رسول الله صل الله عليه وسلم بطاقة كالأنملة فيلقيها في كفة الميزان اليمنى التي فيها حسناته فترجح الحسنات فيقول ذلك العبد المؤمن للنبي صلى الله عليه وسلم بأبي أنت وأمي‏!‏ ما أحسن وجهك وما أحسن خلقك فمن أنت‏؟‏ فيقول أنا محمد نبيك وهذه صلواتك التي كنت تصلي على قد وفيتك أحوج ما تكون إليها‏)‏‏.‏ ذكره القشيري في تفسيره‏.‏ وذكر أن البطاقة ‏(‏بكسر الباء‏)‏ رقعة فيها رقم المتاع بلغة‏.‏ أهل مصر‏.‏ وقال ابن ماجة‏:‏ قال محمد بن يحيى‏:‏ البطاقة الرقعة، وأهل مصر يقولون للرقعة بطاقة‏.‏ وقال حذيفة‏:‏ صاحب الموازين يوم القيامة جبريل عليه السلام، يقول الله تعالى‏:‏ ‏(‏يا جبريل زن بينهم فرد من بعض على بعض‏)‏‏.‏ قال‏:‏ وليس ثم ذهب ولا فضة؛ فإن كان للظالم حسنات أخذ من حسناته فرد على المظلوم، وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات المظلوم فتحمل على الظالم؛ فيرجع الرجل وعليه مثل الجبال‏.‏ وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أن الله تعالى يقول يوم القيامة يا آدم ابرز إلى جانب الكرسي عند الميزان وأنظر ما يرفع إليك من أعمال بنيك فمن رجح خيره على شره مثقال حبة فله الجنة ومن رجح شره على خيره مثقال حبة فله النار حتى تعلم أني لا أعذب إلا ظالما‏)‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 10 ‏)‏

‏{‏ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش قليلا ما تشكرون‏}‏

أي جعلناها لكم قرارا ومهادا، وهيأنا لكم فيها أسباب المعيشة‏.‏ والمعايش مع معيشة، أي ما يتعيش به من المطعم والمشرب وما تكون به الحياة‏.‏ يقال‏:‏ عاش يعيش عيشا ومعاشا ومعيشا ومعيشة وعيشة‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ المعيشة ما يتوصل به إلى العيش‏.‏ ومعيشة في قول الأخفش وكثير من النحويين مفعلة‏.‏ وقرأ الأعرج‏{‏معائش‏}‏ بالهمز‏.‏ وكذا روى خارجة بن مصعب عن نافع‏.‏ قال النحاس‏:‏ والهمز لحن لا يجوز؛ لأن الواحدة معيشة، أصلها معيشة، فزيدت ألف الوصل وهي ساكنة والياء ساكنة، فلا بد من تحريك إذ لا سبيل إلى الحذف، والألف لا تحرك فحركت الياء بما كان يجب لها في الواحد‏.‏ ونظيره من الواو مناور ومناور، ومقام ومقاوم؛ كما قال الشاعر‏:‏

وإني لقوام مقاوم لم يكن جرير ولا مولى جرير يقومها

وكذا مصيبة ومصاوب‏.‏ هذا الجيد، ولغة شاذة مصائب‏.‏ قال الأخفش‏:‏ إنما جاز مصائب لأن الواحدة معتلة‏.‏ قال الزجاج‏:‏ هذا خطأ يلزمه عليه أن يقول مقائم‏.‏ ولكن القول أنه مثل وسادة وإسادة‏.‏ وقيل‏:‏ لم يجز الهمز في معايش لأن المعيشة مفعلة؛ فالياء أصلية، وإنما يهمز إذا كانت الياء زائدة مثل مدينة ومدائن، وصحيفة وصحائف، وكريمة وكرائم، ووظيفة ووظائف، وشبهه‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 11 ‏)‏

‏{‏ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين‏}‏

قوله تعالى‏{‏ولقد خلقناكم ثم صورناكم‏}‏ لما ذكر نعمه ذكر ابتداء خلقه‏.‏ وقد تقدم معنى الخلق في غير موضع‏.‏ ‏}‏ثم صورناكم‏}‏ أي خلقناكم نطفا ثم صورناكم، ثم إنا نخبركم أنا قلنا للملائكة اسجدوا لآدم‏.‏ وعن ابن عباس والضحاك وغيرهما‏:‏ المعنى خلقنا آدم ثم صورناكم في ظهره‏.‏ وقال الأخفش‏{‏ثم‏}‏ بمعنى الواو‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى ‏}‏ولقد خلقناكم‏}‏ يعني آدم عليه السلام، ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم، ثم صورناكم؛ على التقديم والتأخير‏.‏ وقيل‏{‏ولقد خلقناكم‏}‏ يعني آدم؛ ذكر بلفظ الجمع لأنه أبو البشر‏.‏ ‏}‏ثم صورناكم‏}‏ راجع إليه أيضا‏.‏ كما يقال‏:‏ نحن قتلناكم؛ أي قتلنا سيدكم‏.‏ ‏}‏ثم قلنا لملائكة اسجدوا لآدم‏}‏ وعلى هذا لا تقديم ولا تأخير؛ عن ابن عباس أيضا‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى ولقد خلقناكم، يريد آدم وحواء؛ فآدم من التراب وحواء من ضلع من أضلاعه، ثم وقع التصوير بعد ذلك‏.‏ فالمعنى‏:‏ ولقد خلقنا أبويكم ثم صورناهما؛ قاله الحسن‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى خلقناكم في ظهر آدم ثم صورناكم حين أخذنا عليكم الميثاق‏.‏ هذا قول مجاهد، رواه عنه ابن جريج وابن أبي نجيح‏.‏ قال النحاس‏:‏ وهذا أحسن الأقوال‏.‏ يذهب مجاهد إلى أنه خلقهم في ظهر آدم، ثم صورهم حين أخذ عليهم الميثاق، ثم كان السجود بعد‏.‏ ويقوي هذا ‏}‏وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم‏}‏الأعراف‏:‏ 172‏]‏‏.‏ والحديث ‏(‏أنه أخرجهم أمثال الذر فأخذ عليهم الميثاق‏)‏‏.‏ وقيل‏{‏ثم‏}‏ للإخبار، أي ولقد خلقناكم يعني في ظهر آدم صلى الله عليه وسلم، ثم صورناكم أي في الأرحام‏.‏ قال النحاس‏:‏ هذا صحيح عن ابن عباس‏.‏

قلت‏:‏ كل هذه الأقوال محتمل، والصحيح منها ما يعضده التنزيل؛ قال الله تعالى‏{‏ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين‏}‏المؤمنون‏:‏ 12‏]‏ يعني آدم‏.‏ وقال‏{‏وخلق منها زوجها‏}‏النساء‏:‏ 1‏]‏‏.‏ ثم قال‏{‏جعلناه‏}‏ أي جعلنا نسله وذريته ‏}‏نطفة في قرار مكين‏}‏المؤمنون‏:‏ 13‏]‏ الآية‏.‏ فآدم خلق من طين ثم صور وأكرم بالسجود، وذريته صوروا في أرحام الأمهات بعد أن خلقوا فيها وفي أصلاب الآباء‏.‏ وقد تقدم في أول سورة ‏}‏الأنعام‏}‏ أن كل إنسان مخلوق من نطفة وتربة؛ فتأمله‏.‏ وقال هنا‏{‏خلقناكم ثم صورناكم‏}‏ وقال في آخر الحشر‏{‏هو الله الخالق البارئ المصور‏}‏الحشر‏:‏ 24‏]‏‏.‏ فذكر التصوير بعد البرء‏.‏ وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى‏.‏ وقيل‏:‏ معنى ‏}‏ولقد خلقناكم‏}‏ أي خلقنا الأرواح أولا ثم صورنا الأشباح آخرا‏.‏

قوله تعالى‏{‏إلا إبليس لم يكن من الساجدين‏}‏ استثناء من غير الجنس‏.‏ وقيل‏:‏ من الجنس‏.‏ وقد اختلف العلماء‏:‏ هل كان من الملائكة أم لا؛ كما سبق بيانه في ‏}‏البقرة‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 12 ‏)‏

‏{‏قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين‏}‏

قوله تعالى‏{‏قال ما منعك‏}‏ ‏}‏ما‏}‏ في موضع رفع بالابتداء؛ أي أي شيء منعك‏.‏ وهذا سؤال توبيخ‏.‏ ‏}‏ألا تسجد‏}‏ في موضع نصب، أي من أن تسجد‏.‏ و‏}‏لا‏}‏ زائدة‏.‏ وفي ص ‏}‏ما منعك أن تسجد‏}‏ص‏:‏ 75‏]‏ وقال الشاعر‏:‏

أبى جوده لا البخل فاستعجلت به نعم من فتى لا يمنع الجود نائله

أراد أبى جوده البخل، فزاد ‏}‏لا‏}‏‏.‏ وقيل‏:‏ ليست بزائدة؛ فان المنع فيه طرف من القول والدعاء، فكأنه قال‏:‏ من قال لك ألا تسجد‏؟‏ أو من دعاك إلى ألا تسجد‏؟‏ كما تقول‏:‏ قد قلت لك ألا تفعل كذا‏.‏ وقيل‏:‏ في الكلام حذف، والتقدير‏:‏ ما منعك من الطاعة وأحوجك إلى ألا تسجد‏.‏ قال العلماء‏:‏ الذي أحوجه إلى ترك السجود هو الكبر والحسد؛ وكان أضمر ذلك في نفسه إذا أمر بذلك‏.‏ وكان أمره من قبل خلق آدم؛ يقول الله تعالى‏{‏إني خالق بشرا من طين‏.‏ فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين‏}‏ص‏:‏ 71، 72‏]‏‏.‏ فكأنه دخله أمر عظيم من قوله ‏}‏فقعوا له ساجدين‏}‏‏.‏ فإن في الوقوع توضيع الواقع وتشريفا لمن وقع له؛ فأضمر في نفسه ألا يسجد إذا أمره في ذلك الوقت‏.‏ فلما نفخ فيه الروح وقعت الملائكة سجدا، وبقي هو قائما بين أظهرهم؛ فأظهر بقيامه وترك السجود ما في ضميره‏.‏ فقال الله تعالى‏{‏ما منعك ألا تسجد‏}‏ أي ما منعك من الانقياد لأمري؛ فأخرج سر ضميره فقال‏{‏أنا خير منه‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏إذ أمرتك‏}‏ يدل على ما يقوله الفقهاء من أن الأمر يقتضي الوجوب بمطلقه من غير قرينة؛ لأن الذم علق على ترك الأمر المطلق الذي هو قوله عز وجل للملائكة‏{‏اسجدوا لآدم‏}‏ وهذا بين‏.‏

قوله تعالى‏{‏قال أنا خير منه‏}‏ أي منعني من السجود فضلي عليه؛ فهذا من إبليس جواب على المعنى‏.‏ كما تقول‏:‏ لمن هذه الدار‏؟‏ فيقول المخاطب‏:‏ مالكها زيد‏.‏ فليس هذا عين الجواب، بل هو كلام يرجع إلى معنى الجواب‏.‏ ‏}‏خلقتني من نار وخلقته من طين‏}‏ فرأى أن النار أشرف من الطين؛ لعلوها وصعودها وخفتها، ولأنها جوهر مضيء‏.‏ قال ابن عباس والحسن وابن سيرين‏:‏ أول من قاس إبليس فأخطأ القياس‏.‏ فمن قاس الدين برأيه قرنه مع إبليس‏.‏ قال ابن سيرين‏:‏ وما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس‏.‏ وقالت الحكماء‏:‏ أخطأ عدو الله من حيث فضل النار على الطين، وإن كانا في درجة واحدة من حيث هي جماد مخلوق‏.‏ فإن الطين أفضل من النار من وجوه أربعة‏:‏ أحدها‏:‏ أن من جوهر الطين الرزانة والسكون، والوقار والأناة، والحلم، والحياء، والصبر‏.‏ وذلك هو الداعي لآدم عليه السلام بعد السعادة التي سبقت له إلى التوبة والتواضع والتضرع، فأورثه المغفرة والاجتباء والهداية‏.‏ ومن جوهر النار الخفة، والطيش، والحدة، والارتفاع، والاضطراب‏.‏ وذلك هو الداعي لإبليس بعد الشقاوة التي سبقت له إلى الاستكبار والإصرار؛ فأورثه الهلاك والعذاب واللعنة والشقاء؛ قال القفال‏.‏ الثاني‏:‏ إن الخبر ناطق بأن تراب الجنة مسك أذفر، ولم ينطق الخبر بأن في الجنة نارا وأن في النار ترابا‏.‏ الثالث‏:‏ أن النار سبب العذاب، وهي عذاب الله لأعدائه؛ وليس التراب سببا للعذاب‏.‏ الرابع‏:‏ أن الطين مستغن عن النار، والنار محتاجة إلى المكان ومكانها التراب‏.‏

قلت‏:‏ ومحتمل قولا خامسا وهو أن التراب مسجد وطهور؛ كما جاء في صحيح الحديث‏.‏ والنار تخويف وعذاب؛ كما قال تعالى‏{‏ذلك يخوف الله به عباده‏}‏الزمر‏:‏ 16‏]‏‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ كانت الطاعة أولى بإبليس من القياس فعصى ربه، وهو أول من قاس برأيه‏.‏ والقياس في مخالفة النص مردود‏.‏

واختلف الناس في القياس إلى قائل به، وراد له؛ فأما القائلون به فهم الصحابة والتابعون، وجمهور من بعدهم، وأن التعبد به جائز عقلا واقع شرعا، وهو الصحيح‏.‏ وذهب القفال من الشافعية وأبو الحسين البصري إلى وجوب التعبد به عقلا‏.‏ وذهب النظام إلى أنه يستحيل التعبد به عقلا وشرعا؛ ورده بعض أهل الظاهر‏.‏ والأول الصحيح‏.‏ قال البخاري في ‏(1)‏‏:‏ المعنى لا عصمة لأحد إلا في كتاب الله أو سنة نبيه أو في إجماع العلماء إذا وجد فيها الحكم فإن لم يوجد فالقياس‏.‏ وقد ترجم على هذا ‏(2)‏‏.‏ وترجم بعد هذا (3).‏ وقال الطبري‏:‏ الاجتهاد والاستنباط من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وإجماع الأمة هو الحق الواجب، والفرض اللازم لأهل العلم‏.‏ وبذلك جاءت الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن جماعة الصحابة والتابعين‏.‏ وقال أبو تمام المالكي‏:‏ أجمعت الأمة على القياس؛ فمن ذلك أنهم أجمعوا على قياس الذهب والورق في الزكاة‏.‏ وقال أبو بكر‏:‏ أقيلوني بيعتي‏.‏ فقال علي‏:‏ والله لا نقيلك ولا نستقيلك، رضيك رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا أفلا نرضاك لدنيانا‏؟‏ فقاس الإمامة على الصلاة‏.‏ وقاس الصديق الزكاة على الصلاة وقال‏:‏ والله لا أفرق بين ما جمع الله‏.‏ وصرح علي بالقياس في شارب الخمر بمحضر من الصحابة وقال‏:‏ إنه إذا سكر هذى، وإذا هذى افترى؛ فحده حد القاذف‏.‏ وكتب عمر إلى أبي موسى الأشعري كتابا فيه‏:‏ الفهم فيما يختلج في صدرك مما لم يبلغك في الكتاب والسنة، أعرف الأمثال والأشباه، ثم قس الأمور عند ذلك، فاعمد إلى أحبها إلى الله تعالى وأشبهها بالحق فيما ترى‏.‏ الحديث بطوله ذكره الدارقطني‏.‏ وقد قال أبو عبيدة لعمر رضي الله عنهما في حديث الوباء، حين رجع عمر من سرغ‏:‏ نفر من قدر الله‏؟‏ فقال عمر‏:‏ نعم‏!‏ نفر من قدر الله إلى قدر الله‏.‏ ثم قال له عمر‏:‏ أرأيت‏.‏‏.‏‏.‏ فقايسه وناظره بما يشبه من مسألته بمحضر المهاجرين والأنصار، وحسبك‏.‏ وأما الآثار وأي القرآن في هذا المعنى فكثير‏.‏ وهو يدل على أن القياس أصل من أصول الدين، وعصمة من عصم المسلمين، يرجع إليه المجتهدون، ويفزع إليه العلماء العاملون، فيستنبطون به الأحكام‏.‏ وهذا قول الجماعة الذين هم الحجة، ولا يلتفت إلى من شذ عنها‏.‏ وأما الرأي المذموم والقياس المتكلف المنهي عنه فهو ما لم يكن على هذه الأصول المذكورة؛ لأن ذلك ظن ونزغ من الشيطان؛ قال الله تعالى‏{‏ولا تقف ما ليس لك به علم‏}‏الإسراء‏:‏ 36‏]‏‏.‏ وكل ما يورده المخالف من الأحاديث الضعيفة والأخبار الواهية في ذم القياس فهي محمولة على هذا النوع من القياس المذموم، الذي ليس له في الشرع أصل معلوم‏.‏ وتتميم هذا الباب في كتب الأصول‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 13 ‏)‏

‏{‏قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين‏}‏

قوله تعالى‏{‏قال فاهبط منها‏}‏ أي من السماء‏.‏ ‏}‏فما يكون لك أن تتكبر فيها‏}‏ لأن أهلها الملائكة المتواضعون‏.‏ ‏}‏فاخرج إنك من الصاغرين‏}‏ أي من الأذلين‏.‏ ودل هذا أن من عصى مولاه فهو ذليل‏.‏ وقال أبو روق والبجلي‏{‏فاهبط منها‏}‏ أي من صورتك التي أنت فيها؛ لأنه افتخر بأنه من النار فشوهت صورته بالإظلام وزوال إشراقه‏.‏ وقيل‏{‏فاهبط منها‏}‏ أي انتقل من الأرض إلى جزائر البحار؛ كما يقال‏:‏ هبطنا أرض كذا أي انتقلنا إليها من مكان آخر، فكأنه أخرج من الأرض إلى جزائر البحار فسلطانه فيها، فلا يدخل الأرض إلا كهيئة السارق يخاف فيها حتى يخرج منها‏.‏ والقول الأول أظهر‏.‏ وقد تقدم في ‏}‏البقرة‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 14 ‏:‏ 15 ‏)‏

‏{‏قال أنظرني إلى يوم يبعثون، قال إنك من المنظرين‏}‏

سأل النظرة والإمهال إلى يوم البعث والحساب‏.‏ طلب ألا يموت لأن يوم البعث لا موت بعده؛ فقال الله تعالى‏{‏إنك من المنظرين‏}‏‏.‏ قال ابن عباس والسدي وغيرها‏:‏ أنظره إلى النفخة الأولى حيث يموت الخلق كلهم‏.‏ وكان طلب الإنظار إلى النفخة الثانية حيث يقوم الناس لرب العالمين؛ فأبى الله ذلك عليه‏.‏ وقال‏{‏إلى يوم يبعثون‏}‏ ولم يتقدم من يبعث؛ لأن القصة في آدم وذريته، فدلت القرينة على أنهم هم المبعوثون‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 16 ‏:‏ 17 ‏)‏

‏{‏قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم، ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين‏}‏

قوله تعالى‏{‏قال فبما أغويتني‏}‏ الإغواء إيقاع الغي في القلب؛ أي فبما أوقعت في قلبي من الغي والعناد والاستكبار‏.‏ وهذا لأن كفر إبليس ليس كفر جهل؛ بل هو كفر عناد واستكبار‏.‏ قيل‏:‏ معنى الكلام القسم، أي فبإغوائك إياي لأقعدن لهم على صراطك، أو في صراطك؛ فحذف‏.‏ دليل على هذا القول قوله في ‏(‏ص‏)‏‏{‏فبعزتك لأغوينهم أجمعين‏}‏ص‏:‏ 82‏]‏ فكأن إبليس أعظم قدر إغواء الله إياه لما فيه من التسليط على العباد، فأقسم به إعظاما لقدره عنده‏.‏ وقيل‏:‏ الباء بمعنى اللام، كأنه قال‏:‏ فلإغوائك إياي‏.‏ وقيل‏:‏ هي بمعنى مع، والمعنى فمع إغوائك إياي‏.‏ وقيل‏:‏ هو استفهام، كأنه سأل بأي شيء أغواه‏؟‏‏.‏ وكان ينبغي على هذا أن يكون‏:‏ فبم أغويتني‏؟‏‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى فبما أهلكتني بلعنك إياي‏.‏ والإغواء الإهلاك، قال الله تعالى‏{‏فسوف يلقون غيا‏}‏مريم‏:‏ 59‏]‏ أي هلاكا‏.‏ وقيل‏:‏ فبما أضللتني‏.‏ والإغواء‏:‏ الإضلال والإبعاد؛ قال ابن عباس‏.‏ وقيل‏:‏ خيبتني من رحمتك؛ ومنه قول الشاعر‏:‏

ومن يغو لا يعدم عل الغي لائما

أي من يخب‏.‏ وقال ابن الأعرابي‏:‏ يقال غوى الرجل يغوي غيا إذا فسد عليه أمره، أو فسد هو في نفسه‏.‏ وهو أحد معاني قوله تعالى‏{‏وعصى آدم ربه فغوى‏}‏طه‏:‏ 121‏]‏ أي فسد عيشه في الجنة‏.‏ ويقال‏:‏ غوي الفصيل إذا لم يدر لبن أمه‏.‏

مذهب أهل السنة أي أن الله تعالى أضله وخلق فيه الكفر؛ ولذلك نسب الإغواء في هذا إلى الله تعالى‏.‏ وهو الحقيقة، فلا شيء في الوجود إلا وهو مخلوق له، صادر عن إرادته تعالى‏.‏ وخالف الإمامية والقدرية وغيرهما شيخهم إبليس الذي طاوعوه في كل ما زينه لهم، ولم يطاوعوه في هذه المسألة ويقولون‏:‏ أخطأ إبليس، وهو أهل للخطأ حيث نسب الغواية إلى ربه، تعالى الله عن ذلك‏.‏ فيقال لهم‏:‏ وإبليس وإن كان أهلا للخطأ فما تصنعون في نبي مكرم معصوم، وهو ونوح عليه السلام حيث قال لقومه‏{‏ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم وإليه ترجعون‏}‏هود‏:‏ 34‏]‏ وقد روي أن طاوسا جاءه رجل في المسجد الحرام، وكان متهما بالقدر، وكان من الفقهاء الكبار؛ فجلس إليه فقال له طاوس‏:‏ تقوم أو تقام‏؟‏ فقيل لطاوس‏:‏ تقول هذا لرجل فقيه‏!‏ فقال‏:‏ إبليس أفقه منه، يقول إبليس‏:‏ رب بما أغويتني‏.‏ ويقول هذا‏:‏ أنا أغوي نفسي‏.‏

قوله تعالى‏{‏لأقعدن لهم صراطك المستقيم‏}‏ أي بالصد عنه، وتزيين الباطل حتى يهلكوا كما هلك، أو يضلوا كما ضل، أو يخيبوا كما خيب؛ حسب ما تقدم من المعاني الثلاثة في ‏}‏أغويتني‏}‏‏.‏ والصراط المستقيم هو الطريق الموصل إلى الجنة‏.‏ و‏}‏صراطك‏}‏ منصوب على حذف ‏}‏على‏}‏ أو ‏}‏في‏}‏ من قوله‏{‏صراطك المستقيم‏}‏؛ كما حكى سيبويه ‏}‏ضرب زيد الظهر والبطن‏}‏‏.‏ وأنشد‏:‏

لدن بهز الكف يعسل متنه فيه كما عسل الطريق الثعلب

ومن أحسن ما قيل في تأويل ‏}‏ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم‏}‏ أي لأصدنهم عن الحق، وأرغبنهم في الدنيا، وأشككهم في الآخرة‏.‏ وهذا غاية في الضلالة‏.‏ كما قال‏{‏ولأضلنهم‏}‏النساء‏:‏ 119‏]‏ حسب ما تقدم‏.‏ وروى سفيان عن منصور عن الحكم بن عتيبة‏{‏من بين أيديهم‏}‏ من دنياهم‏.‏ ‏}‏ومن خلفهم‏}‏ من آخرتهم‏.‏ ‏}‏وعن أيمانهم‏}‏ يعني حسناتهم‏.‏ ‏}‏وعن شمائلهم‏}‏ يعني سيئاتهم‏.‏ قال النحاس‏:‏ وهذا قول حسن وشرحه‏:‏ أن معنى ‏}‏ثم لآتينهم من بين أيديهم‏}‏ من دنياهم، حتى يكذبوا بما فيها من الآيات وأخبار الأمم السالفة ‏}‏ومن خلفهم‏}‏ من آخرتهم حتى يكذبوا بها‏.‏ ‏}‏وعن أيمانهم‏}‏ من حسناتهم وأمور دينهم‏.‏ ويدل على هذا قوله‏{‏إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين‏}‏الصافات‏:‏ 28‏]‏ ‏}‏وعن شمائلهم‏}‏ يعني سيئاتهم، أي يتبعون الشهوات؛ لأنه يزينها لهم‏.‏ ‏}‏ولا تجد أكثرهم شاكرين‏}‏ أي موحدين طائعين مظهرين الشكر‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 18 ‏)‏

‏{‏قال اخرج منها مذؤوما مدحورا لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين‏}‏

قوله تعالى‏{‏قال اخرج منها‏}‏ أي من الجنة‏.‏ ‏}‏مذؤوما مدحورا‏}‏‏.‏ ‏}‏مذؤوما‏}‏ أي مذموما‏.‏ والذأم‏:‏ العيب، بتخفيف الميم‏.‏ قال ابن زيد‏:‏ مذؤوما ومذموما سواء؛ يقال‏:‏ ذأمته وذممته وذمته بمعنى واحد‏.‏ وقرأ الأعمش ‏}‏مذوما‏}‏‏.‏ والمعنى واحد؛ إلا أنه خفف الهمزة‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ المذؤوم المنفي‏.‏ والمعنيان متقاربان‏.‏ والمدحور‏:‏ المبعد المطرود؛ عن مجاهد وغيره‏.‏ وأصله الدفع‏.‏ ‏}‏لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين‏}‏ اللام لام القسم، والجواب ‏}‏لأملأن جهنم‏}‏‏.‏ وقيل‏{‏لمن تبعك‏}‏ لام توكيد‏.‏ ‏}‏لأملأن‏}‏ لام قسم‏.‏ والدليل على هذا أنه يجوز في غير القراءة حذف اللام الأولى، ولا يجوز حذف الثانية‏.‏ وفي الكلام معنى الشرط والمجازاة؛ أي من تبعك عذبته‏.‏ ولو قلت‏:‏ من تبعك أعذبه لم يجز؛ إلا أن تريد لأعذبه‏.‏ وقرأ عاصم من رواية أبي بكر بن عياش ‏}‏لمن تبعك منهم‏}‏ بكسر اللام‏.‏ وأنكره بعض النحويين‏.‏ قال النحاس‏:‏ وتقديره - والله أعلم - من أجل من تبعك‏.‏ كما يقال‏:‏ أكرمت فلانا لك‏.‏ وقد يكون المعنى‏:‏ الدحر لمن تبعك‏.‏ ومعنى ‏}‏منكم أجمعين‏}‏ أي منكم ومن بني آدم؛ لأن ذكرهم قد جرى إذ قال‏{‏ولقد خلقناكم‏}‏الأعراف‏:‏ 11‏]‏‏.‏ خاطب ولد آدم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 19 ‏)‏

‏{‏ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين‏}‏

قال لآدم بعد إخراج إبليس من موضعه من السماء‏:‏ اسكن أنت وحواء الجنة‏.‏ وقد تقدم في البقرة معنى الإسكان، فأغنى عن إعادته‏.‏ وقد تقدم معنى ‏}‏ولا تقربا هذه الشجرة‏}‏البقرة‏:‏ 35‏]‏ هناك‏.‏ والحمد لله‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 20 ‏)‏

‏{‏فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين‏}‏

قوله تعالى‏{‏فوسوس لهما الشيطان‏}‏ أي إليهما‏.‏ قيل‏:‏ داخل الجنة بإدخال الحية إياه وقيل‏:‏ من خارج، بالسلطنة التي جعلت له‏.‏ والوسوسة‏:‏ الصوت الخفي‏.‏ والوسوسة‏:‏ حديث النفس؛ يقال‏:‏ وسوست إليه نفسه وسوسة ووسواسا ‏(‏بكسر الواو‏)‏‏.‏ والوسواس ‏(‏بالفتح‏)‏‏:‏ اسم، مثل الزلزال‏.‏ ويقال لهمس الصائد والكلاب وأصوات الحلى‏:‏ وسواس‏.‏ قال الأعشى‏:‏

تسمع للحلي وسواسا إذا انصرفت كما استعان بريح عشرق زجل

والوسواس‏:‏ اسم الشيطان؛ قال الله تعالى‏{‏من شر الوسواس الخناس‏}‏الناس‏:‏ 4‏]‏‏.‏ ‏}‏ليبدي لهما‏}‏ أي ليظهر لهما‏.‏ واللام لام العاقبة؛ كما قال‏{‏ليكون لهم عدوا وحزنا‏}‏القصص‏:‏ 8‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ لام كي‏.‏ ‏}‏ما ووري عنهما‏}‏ أي ستر وغطي عنهما‏.‏ ويجوز في غير القرآن أوري، مثل أقتت و‏}‏من سوآتهما‏}‏ من عوراتهما وسمي الفرج عورة لأن إظهاره يسوء صاحبه‏.‏ ودل هذا على قبح كشفها فقيل‏:‏ إنما بدت سوآتهما لهما لا لغيرهما؛ كان عليهما نور لا ترى عوراتهما فزال النور‏.‏ وقيل‏:‏ ثوب؛ فتهافت، والله أعلم‏.‏ ‏}‏إلا أن تكونا ملكين‏}‏ ‏}‏أن‏}‏ في موضع نصب، بمعنى إلا، كراهية أن؛ فحذف المضاف‏.‏ هذا قول البصريين‏.‏ والكوفيون يقولون‏:‏ لئلا تكونا‏.‏ وقيل‏:‏ أي إلا ألا تكونا ملكين تعلمان الخير والشر‏.‏ وقيل‏:‏ طمع آدم في الخلود؛ لأنه علم أن الملائكة لا يموتون إلى يوم القيامة‏.‏ قال النحاس‏:‏ وبين الله عز وجل فضل الملائكة على جميع الخلق في غير موضع من القرآن؛ فمنها هذا، وهو ‏}‏إلا أن تكونا ملكين‏}‏‏.‏ ومنه ‏}‏ولا أقول إني ملك‏}‏هود‏:‏ 31‏]‏‏.‏ ومنه ‏}‏ولا الملائكة المقربون‏}‏النساء‏:‏ 172‏]‏‏.‏ وقال الحسن‏:‏ فضل الله الملائكة بالصور‏.‏ والأجنحة والكرامة‏.‏ وقال غيره‏:‏ فضلهم جل وعز بالطاعة وترك المعصية؛ فلهذا يقع التفضيل في كل شيء‏.‏ وقال ابن فورك‏.‏ لا حجة في هذه الآية؛ لأنه يحتمل أن يريد ملكين في ألا يكون لهما شهوة في طعام‏.‏ واختيار ابن عباس والزجاج وكثير من العلماء تفضيل المؤمنين على الملائكة؛ وقال الكلبي‏:‏ فضلوا على الخلائق كلهم، غير طائفة من الملائكة‏:‏ جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت؛ لأنهم من جملة رسل الله‏.‏ وتمسك كل فريق بظواهر من الشريعة، والفضل بيد الله‏.‏ وقرأ ابن عباس ‏}‏ملكين‏}‏ بكسر اللام، وهي قراءة يحيى بن أبي كثير والضحاك‏.‏ وأنكر أبو عمرو بن العلاء كسر اللام وقال‏:‏ لم يكن قبل آدم صلى الله عليه وسلم ملك فيصيرا ملكين‏.‏ قال النحاس‏:‏ ويجوز على هذه القراءة إسكان اللام، ولا يجوز على القراءة الأولى لخفة الفتحة‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ أتاهما الملعون من جهة الملك؛ ولهذا قال‏{‏هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى‏}‏طه‏:‏ 120‏]‏‏.‏ وزعم أبو عبيد أن احتجاج يحيى بن أبي كثير بقوله‏{‏وملك لا يبلى‏}‏ حجة بينة، ولكن الناس على تركها فلهذا تركناها‏.‏ قال النحاس‏{‏إلا أن تكون مَلِكين‏}‏ قراءة شاذة‏.‏ وقد أنكر على أبي عبيد هذا الكلام، وجعل من الخطأ الفاحش‏.‏ وهل يجوز أن يتوهم آدم عليه السلام أنه يصل إلى أكثر من ملك الجنة؛ وهو غاية الطالبين‏.‏ وإنما معنى ‏}‏وملك لا يبلى‏}‏ المقام في ملك الجنة، والخلود فيه‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 21 ‏)‏

‏{‏وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين‏}‏

قوله تعالى‏{‏وقاسمهما‏}‏ أي حلف لهما‏.‏ يقال‏:‏ أقسم إقساما؛ أي حلف‏.‏ قال الشاعر‏:‏

وقاسمها بالله جهدا لأنتم ألذ من السلوى إذا ما نشورها

وجاء ‏}‏فاعلت‏}‏ من واحد‏.‏ وهو يرد على من قال‏:‏ إن المفاعلة لا تكون إلا من اثنين‏.‏ وقد تقدم في ‏}‏المائدة‏}‏‏.‏ ‏}‏إني لكما لمن الناصحين‏}‏ ليس ‏}‏لكما‏}‏ داخلا في الصلة‏.‏ والتقدير‏:‏ إني ناصح لكما لمن الناصحين؛ قاله هشام النحوي‏.‏ وقد تقدم مثله في ‏}‏البقرة‏}‏‏.‏ ومعنى الكلام‏:‏ اتبعاني أرشدكما؛ ذكره قتادة‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 22 ‏:‏ 24 ‏)‏

‏{‏فدلاهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين، قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين‏}‏

قوله تعالى‏{‏فدلاهما بغرور‏}‏ أوقعهما في الهلاك‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ غرهما باليمين‏.‏ وكان يظن آدم أنه لا يحلف أحد بالله كاذبا، فغررهما بوسوسته وقسمه لهما‏.‏ وقال قتادة‏:‏ حلف بالله لهما حتى خدعهما‏.‏ وقد يخدع المؤمن بالله‏.‏ كان بعض العلماء يقول‏:‏ من خادعنا بالله خدعنا‏.‏ وفي الحديث عنه صلى‏:‏ ‏(‏المؤمن غر كريم والفاجر خب لئيم‏)‏‏.‏ وأنشد نفطويه‏:‏

إن الكريم إذا تشاء خدعته وترى اللئيم مجربا لا يخدع

‏}‏فدلاهما‏}‏ يقال‏:‏ أدلى دلوه‏:‏ أرسلها‏.‏ ودلاها‏:‏ أخرجها‏.‏ وقيل‏{‏دلاهما‏}‏ أي دللهما؛ من الدالة وهي الجرأة‏.‏ أي جرأهما على المعصية فخرجا من الجنة‏.‏

قوله تعالى‏{‏فلما ذاقا الشجرة‏}‏ أي أكلا منها‏.‏ ‏}‏بدت لهما سوآتهما‏}‏ أكلت حواء أولا فلم يصبها شيء؛ فلما أكل آدم حلت العقوبة؛ لأن النهي ورد عليهما كما تقدم في ‏}‏البقرة‏}‏‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ تقلص النور الذي كان لباسهما فصار أظفارا في الأيدي والأرجل‏.‏

قوله تعالى‏{‏وطفقا‏}‏ ويجوز إسكان الفاء‏.‏ وحكى الأخفش طفق يطفق؛ مثل ضرب يضرب‏.‏ يقال‏:‏ طفق، أي أخذ في الفعل‏.‏ ‏}‏يخصفان‏}‏ وقرأ الحسن بكسر الخاء وشد الصاد‏.‏ والأصل ‏}‏يختصفان‏}‏ فأدغم، وكسر الخاء لالتقاء الساكنين‏.‏ وقرأ ابن بريدة ويعقوب بفتح الخاء، ألقيا حركة التاء عليها‏.‏ ويجوز ‏}‏يخصفان‏}‏ بضم الياء، من خصف يخصف‏.‏ وقرأ الزهري ‏}‏يخصفان‏}‏ من أخصف‏.‏ وكلاهما منقول بالهمزة أو التضعيف والمعنى‏:‏ يقطعان الورق ويلزقانه ليستترا به، ومنه خصف النعل‏.‏ والخصاف الذي يرقعها‏.‏ والمخصف المثقب‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ هو ورق التين‏.‏ ويروى أن آدم عليه السلام لما بدت سوأته وظهرت عورته طاف على أشجار الجنة يسل منها ورقة يغطي بها عورته؛ فزجرته أشجار الجنة حتى رحمته شجرة التين فأعطته ورقة‏.‏ ‏}‏فطفقا‏}‏ يعني آدم وحواء ‏}‏يخصفان عليهما من ورق الجنة‏}‏ فكافأ الله التين بأن سوى ظاهره وباطنه في الحلاوة والمنفعة وأعطاه ثمرتين في عام واحد مرتين‏.‏

وفي الآية دليل على قبح كشف العورة، وأن الله أوجب عليهما الستر؛ ولذلك ابتدرا إلى سترها، ولا يمتنع أن يؤمرا بذلك في الجنة؛ كما قيل لهما‏{‏ولا تقربا هذه الشجرة‏}‏‏.‏ وقد حكى صاحب البيان عن الشافعي أن من لم يجد ما يستر به عورته إلا ورق الشجر لزمه أن يستتر بذلك؛ لأنه سترة ظاهرة يمكنه التستر بها؛ كما فعل آدم في الجنة‏.‏ والله أعلم‏.‏

قوله تعالى‏{‏وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين‏}‏ أي قال لهما‏:‏ ألم أنهكما‏.‏ قالا ربنا نداء مضاف‏.‏ والأصل يا ربنا‏.‏ وقيل‏.‏ إن في حذف ‏}‏يا‏}‏ معنى التعظيم‏.‏ فاعترفا بالخطيئة وتابا صلى الله عليهما وسلم وقد مضى في ‏}‏البقرة‏}‏‏.‏ ومعنى قوله‏{‏قلنا اهبطوا‏}‏ تقدم أيضا إلى آخر الآية‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 25 ‏)‏

‏{‏قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون‏}‏

الضمائر كلها للأرض‏.‏ ولم يذكر الواو في ‏}‏قال‏}‏، ولو ذكرها لجاز أيضا‏.‏ وهو كقولك‏:‏ قال زيد لعمرو كذا قال له كذا‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 26 ‏)‏

‏{‏يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون‏}‏

قوله تعالى‏{‏يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا‏}‏ قال كثير من العلماء‏:‏ هذه الآية دليل على وجوب ستر العورة؛ لأنه قال‏{‏يواري سوآتكم‏}‏‏.‏ وقال قوم إنه ليس فيها دليل على ما ذكروه، بل فيها دلالة على الإنعام فقط‏.‏

قلت‏:‏ القول الأول أصح‏.‏ ومن جملة الإنعام ستر العورة؛ فبين أنه سبحانه وتعالى جعل لذريته ما يسترون به عوراتهم، ودل على الأمر بالستر‏.‏ ولا خلاف بين العلماء في وجوب ستر العورة عن أعين الناس‏.‏ واختلفوا في العورة ما هي‏؟‏ فقال ابن أبي ذئب‏:‏ هي من الرجل الفرج نفسه، القبل والدبر دون غيرهما‏.‏ وهو قول داود وأهل الظاهر وابن أبي عبلة والطبري؛ لقوله تعالى‏{‏لباسا يواري سوآتكم‏}‏، ‏}‏بدت لهما سوآتهما‏}‏الأعراف‏:‏ 22‏]‏، ‏}‏ليريهما سوآتهما‏}‏الأعراف‏:‏ 27‏]‏‏.‏ وفي البخاري عن أنس‏{‏فأجرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في زقاق خيبر - وفيه - ثم حسر الإزار عن فخذه حتى إني أنظر إلى بياض فخذ نبي الله صلى الله عليه وسلم‏}‏‏.‏ وقال مالك‏:‏ السرة ليست بعورة، وأكره للرجل أن يكشف فخذه بحضرة زوجته‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ الركبة عورة‏.‏ وهو قول عطاء‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ ليست السرة ولا الركبتان من العورة على الصحيح‏.‏ وحكى أبو حامد الترمذي أن للشافعي في السرة قولين‏.‏ وحجة مالك قوله عليه السلام لجرهد‏:‏ ‏(‏غط فخذك فإن الفخذ عورة‏)‏‏.‏ خرجه البخاري تعليقا وقال‏:‏ حديث أنس أسند، وحديث جرهد أحوط حتى يخرج من اختلافهم‏.‏ وحديث جرهد هذا يدل على خلاف ما قال أبو حنيفة‏.‏ وروي أن أبا هريرة قبل سرة الحسن بن علي وقال‏:‏ أقبل منك ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل منك‏.‏ فلو كانت السرة عورة ما قبلها أبو هريرة، ولا مكنه الحسن منها‏.‏ وأما المرأة الحرة فعورة كلها إلا الوجه والكفين‏.‏‏.‏ على هذا أكثر أهل العلم‏.‏ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من أراد أن يتزوج امرأة فلينظر إلى وجهها وكفيها‏)‏‏.‏ ولأن ذلك واجب كشفه في الإحرام‏.‏ وقال أبو بكر بن عبدالرحمن بن الحارث بن هشام‏:‏ كل شيء من المرأة عورة حتى ظفرها‏.‏ وروي عن أحمد بن حنبل نحوه‏.‏ وأما أم الولد فقال الأثرم‏:‏ سمعته - يعني أحمد بن حنبل - يسأل عن أم الولد كيف تصلي‏؟‏ فقال‏:‏ تغطي رأسها وقدميها؛ لأنها لا تباع، وتصلي كما تصلي الحرة‏.‏ وأما الأمة فالعورة منها ما تحت ثديها، ولها أن تبدي رأسها ومعصميها‏.‏ وقيل‏:‏ حكمها حكم الرجل‏.‏ وقيل‏:‏ يكره لها كشف رأسها وصدرها‏.‏ وكان عمر رضي الله عنه يضرب الإماء على تغطيتهن رؤوسهن ويقول‏:‏ لا تشبهن بالحرائر‏.‏ وقال أصبغ‏:‏ إن انكشف فخذها أعادت الصلاة في الوقت‏.‏ وقال أبو بكر بن عبدالرحمن بن الحارث بن هشام‏:‏ كل شيء من الأمة عورة حتى ظفرها‏.‏ وهذا خارج عن أقوال الفقهاء؛ لإجماعهم على أن المرأة الحرة لها أن تصلي المكتوبة ويداها ووجهها مكشوف ذلك كله، تباشر الأرض به‏.‏ فالأمة أولى، وأم الولد أغلظ حالا من الأمة‏.‏ والصبي الصغير لا حرمة لعورته‏.‏ فإذا بلغت الجارية إلى حد تأخذها العين وتشتهى سترت عورتها‏.‏ وحجة أبي بكر بن عبدالرحمن قوله تعالى‏{‏يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن‏}‏الأحزاب‏:‏ 59‏]‏‏.‏ وحديث أم سلمة أنها سئلت‏:‏ ماذا تصلي فيه المرأة من الثياب‏؟‏ فقالت‏:‏ تصلي في الدرع والخمار السابغ الذي يغيب ظهور قدميها‏.‏ وقد روي مرفوعا‏.‏ والذين أوقفوه على أم سلمة أكثر وأحفظ؛ منهم مالك وابن إسحاق وغيرهما‏.‏ قال أبو داود‏:‏ ورفعه عبدالرحمن بن عبدالله بن دينار عن محمد بن زيد عن أمه عن أم سلمة أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ عبدالرحمن هذا ضعيف عندهم؛ إلا أنه قد خرج البخاري بعض حديثه‏.‏ والإجماع في هذا الباب أقوى من الخبر‏.‏

قوله تعالى‏{‏أنزلنا عليكم لباسا‏}‏ يعني المطر الذي ينبت القطن والكتان، ويقيم البهائم الذي منها الأصواف والأوبار والأشعار؛ فهو مجاز مثل ‏}‏وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج‏}‏الزمر‏:‏ 6‏]‏ على ما يأتي‏.‏ وقيل‏:‏ هذا الإنزال إنزال شيء من اللباس مع آدم وحواء، ليكون مثالا لغيره‏.‏ وقال سعيد بن جبير‏{‏أنزلنا عليكم‏}‏ أي خلقنا لكم؛ كقوله‏{‏وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أواج‏}‏ أي خلق‏.‏ على ما يأتي‏.‏ وقيل‏:‏ ألهمناكم كيفية صنعته‏.‏

قرأ أبو عبدالرحمن والحسن وعاصم من رواية المفضل الضبي، وأبو عمرو من رواية الحسين بن علي الجعفي ‏}‏ورياشا‏}‏‏.‏ ولم يحكه أبو عبيد إلا عن الحسن، ولم يفسر معناه‏.‏ وهو جمع ريش‏.‏ وهو ما كان من المال واللباس‏.‏ وقال الفراء‏:‏ ريش ورياش، كما يقال‏:‏ لبس ولباس‏.‏ وريش الطائر ما ستره الله به‏.‏ وقيل‏:‏ هو الخصب ورفاهية العيش‏.‏ والذي عليه أكثر أهل اللغة أن الريش ما ستر من لباس أو معيشة‏.‏ وأنشد سيبويه‏:‏

فريشي منكم وهواي معكم وإن كانت زياتكم لماما

وحكى أبو حاتم عن أبي عبيدة‏:‏ وهت له دابة بريشها؛ أي بكسوتها وما عليها من اللباس‏.‏

قوله تعالى‏{‏ولباس التقوى ذلك خير‏}‏ بين أن التقوى خير لباس؛ كما قال‏:‏

إذا المرء لم يلبس ثيابا من التقى تقلب عيانا وإن كان كاسيا

وخير لباس المرء طاعة ربه ولا خير فيمن كان لله عاصيا

وروى قاسم بن مالك عن عوف عن معبدالجهني قال‏{‏لباس التقوى‏}‏ الحياء‏.‏ وقال ابن عباس‏{‏لباس التقوى‏}‏ هو العمل الصالح‏.‏ وعنه أيضا‏:‏ السمت الحسن في الوجه‏.‏ وقيل‏:‏ ما علمه عز وجل وهدى به‏.‏ وقيل‏{‏لباس التقوى‏}‏ لبس الصوف والخشن من الثياب، مما يتواضع به لله تعالى ويتعبد له خير من غيره‏.‏ وقال زيد بن علي‏{‏لباس التقوى‏}‏ الدرع والمغفر؛ والساعدان، والساقان، يتقى بهما في الحرب‏.‏ وقال عروة بن الزبير‏:‏ هو الخشية لله‏.‏ وقيل‏:‏ هو استشعار تقوى الله تعالى فيما أمر به ونهى عنه‏.‏

قلت‏:‏ وهو الصحيح، وإليه يرجع قول ابن عباس وعروة‏.‏ وقول زيد بن علي حسن، فإنه خض على الجهاد‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ هو ستر العورة‏.‏ وهذا فيه تكرار، إذ قال أولا‏{‏قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم‏}‏‏.‏ ومن قال‏:‏ إنه لبس الخشن من الثياب فإنه أقرب إلى التواضع وترك الرعونات فدعوى؛ فقد كان الفضلاء من العلماء يلبسون الرفيع من الثياب مع حصول التقوى، على ما يأتي مبينا إن شاء الله تعالى‏.‏ وقرأ أهل المدينة والكسائي ‏}‏لباس‏}‏ بالنصب عطفا على ‏}‏لباسا‏}‏ الأول‏.‏ وقيل‏:‏ انتصب بفعل مضمر؛ أي وأنزلنا لباس التقوى‏.‏ والباقون بالرفع على الابتداء‏.‏ و‏}‏ذلك‏}‏ نعته و‏}‏خير‏}‏ خبر الابتداء‏.‏ والمعنى‏:‏ ولباس التقوى المشار إليه، الذي علمتموه، خير لكم من لباس الثياب التي تواري سوآتكم، ومن الرياش الذي أنزلنا إليكم؛ فألبسوه‏.‏ وقيل‏:‏ ارتفع بإضمار هو؛ أي وهو لباس التقوى؛ أي هو ستر العورة‏.‏ وعليه يخرج قول ابن زيد‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى ولباس التقوى هو خير؛ ‏}‏فذلك‏}‏ بمعنى هو‏.‏ والإعراب الأول أحسن ما قيل فيه‏.‏ وقرأ الأعمش ‏}‏ولباس التقوى خير‏}‏ ولم يقرأ ‏}‏ذلك‏}‏‏.‏ وهو خلاف المصحف‏.‏ ‏}‏ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون‏}‏ أي مما يدل على أن له خالقا‏.‏ و‏}‏ذلك‏}‏ رفع على الصفة، أو على البدل، أو عطف بيان‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 27 ‏)‏

‏{‏يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون‏}‏

قوله تعالى‏{‏لا يفتننكم‏}‏ أي لا يصرفنكم الشيطان عن الدين؛ كما فتن أبويكم بالإخراج من الجنة‏.‏ ‏}‏أب‏}‏ للمذكر، و‏}‏أبة‏}‏ للمؤنث‏.‏ فعلى هذا قيل‏:‏ أبوان ‏}‏ينزع عنهما لباسهما‏}‏ في موضع نصب على الحال‏.‏ ويكون مستأنفا فيوقف على ‏}‏من الجنة‏}‏‏.‏ ‏}‏ليريهما‏}‏ نصب بلام كي‏.‏ وفي هذا أيضا دليل على وجوب ستر العورة؛ لقوله‏{‏ينزع عنهما لباسهما‏}‏‏.‏ قال الآخرون‏:‏ إنما فيه التحذير من زوال النعمة؛ كما نزل بآدم‏.‏ هذا أن لو ثبت أن شرع آدم يلزمنا، والأمر بخلاف ذلك‏.‏

قوله تعالى‏{‏إنه يراكم هو وقبيله‏}‏ ‏}‏قبيله‏}‏ جنوده‏.‏ قال مجاهد‏:‏ يعني الجن والشياطين‏.‏ ابن زيد‏{‏قبيله‏}‏ نسله‏.‏ وقيل‏:‏ جيله‏.‏ ‏}‏من حيث لا ترونهم‏}‏ قال بعض العلماء‏:‏ في هذا دليل على أن الجن لا يرون؛ لقوله ‏}‏من حيث لا ترونهم‏}‏ قيل‏:‏ جائز أن يروا؛ لأن الله تعالى إذا أراد أن يريهم كشف أجسامهم حتى ترى‏.‏ قال النحاس‏{‏من حيث لا ترونهم‏}‏ يدل على أن الجن لا يرون إلا في وقت نبي؛ ليكون ذلك دلالة على نبوته؛ لأن الله جل وعز خلقهم خلقا لا يرون فيه، وإنما يرون إذا نقلوا عن صورهم‏.‏ وذلك من المعجزات التي لا تكون إلا في وقت الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم‏.‏ قال القشيري‏:‏ أجرى الله العادة بأن بني آدم لا يرون الشياطين اليوم‏.‏ وفي الخبر ‏(‏إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم‏)‏‏.‏ وقال تعالى‏{‏الذي يوسوس في صدور الناس‏}‏الناس‏:‏ 5‏]‏‏.‏ وقال عليه السلام‏:‏ ‏(‏إن للملك لمة وللشيطان لمة - أي بالقلب - فأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق وأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق‏)‏‏.‏ وقد جاء في رؤيتهم أخبار صحيحة‏.‏ وقد خرج البخاري عن أبي هريرة قال‏:‏ وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان، وذكر قصة طويلة، ذكر فيها أنه أخذ الجني الذي كان يأخذ التمر، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له‏:‏ ‏(‏ما فعل أسيرك البارحة‏)‏‏.‏ وقد تقدم في البقرة‏.‏ وفي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏والله لو لا دعوة أخي سليمان لأصبح موثقا يلعب به ولدان أهل المدينة‏)‏ - في العفريت الذي تفلت عليه‏.‏ وسيأتي في ‏}‏ص‏}‏ إن شاء الله تعالى‏.‏ ‏}‏إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون‏}‏ أي زيادة في عقوبتهم وسوينا بينهم في الذهاب عن الحق‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 28 ‏)‏

‏{‏وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون‏}‏

الفاحشة هنا في قول كثر المفسرين طوافهم بالبيت عراة‏.‏ وقال الحسن‏:‏ هي الشرك والكفر‏.‏ واحتجوا على ذلك بتقليدهم أسلافهم، وبأن الله أمرهم بها‏.‏ وقال الحسن‏{‏والله أمرنا بها‏}‏ قالوا‏:‏ لو كره الله ما نحن عليه لنقلنا عنه‏.‏ ‏}‏قل إن الله لا يأمر بالفحشاء‏}‏ بين أنهم متحكمون، ولا دليل لهم على أن الله أمرهم بما ادعوا‏.‏ وقد مضى ذم التقليد وذم كثير من جهالاتهم‏.‏ وهذا منها‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 29 ‏)‏

‏{‏قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين كما بدأكم تعودون‏}‏

قوله تعالى‏{‏قل أمر ربي بالقسط‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ لا إله إلا الله‏.‏ وقيل‏:‏ القسط العدل؛ أي أمر‏:‏ العدل فأطيعوه‏.‏ ففي الكلام حذف‏.‏ ‏}‏وأقيموا وجوهكم‏}‏ أي توجهوا إليه في كل صلاة إلى القبلة‏.‏ ‏}‏عند كل مسجد‏}‏ أي في أي مسجد كنتم‏.‏ ‏}‏وادعوه مخلصين له الدين‏}‏ أي وحدوه ولا تشركوا به‏.‏ ‏}‏كما بدأكم تعودون‏}‏ نظيره ‏}‏ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة‏}‏الأنعام‏:‏ 94‏]‏ وقد تقدم‏.‏ والكاف في موضع نصب؛ أي تعودون كما بدأكم؛ أي كما خلقكم أول مرة يعيدكم‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ هو متعلق بما قبله‏.‏ أي ومنها تخرجون كما بدأكم تعودون‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 30 ‏)‏

‏{‏فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون‏}‏

قوله تعالى‏{‏فريقا هدى‏}‏ ‏}‏فريقا‏}‏ نصب على الحال من المضمر في ‏}‏تعودون‏}‏ أي تعودون فريقين‏:‏ سعداء، وأشقياء‏.‏ يقوي هذا قراءة أبي ‏}‏تعودون فريقين فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة‏}‏؛ عن الكسائي‏.‏ وقال محمد بن كعب القرظي في قوله تعالى ‏}‏فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة‏}‏ قال‏:‏ من ابتدأ الله خلقه للضلالة صيره إلى الضلالة، وإن عمل بأعمال الهدى‏.‏ ومن ابتدأ الله خلقه على الهدى صيره إلى الهدى، وإن عمل بأعمال الضلالة‏.‏ ابتدأ الله خلق إبليس على الضلالة، وعمل بأعمال السعادة مع الملائكة، ثم رده الله إلى ما ابتدأ عليه خلقه‏.‏ قال‏{‏وكان من الكافرين‏}‏البقرة‏:‏ 34‏]‏ وفي هذا رد واضح على القدرية ومن تابعهم‏.‏ وقيل‏{‏فريقا‏}‏ نصب بـ ‏}‏هدى‏}‏، ‏}‏وفريقا‏}‏ الثاني نصب بإضمار فعل؛ أي وأضل فريقا‏.‏ وأنشد سيبويه‏:‏

أصبحت لا أحمل السلاح ولا أملك رأس البعير إن نفرا

والذئب أخشاه إن مررت به وحدي وأخشى الرياح والمطرا

قال الفراء‏:‏ ولو كان مرفوعا لجاز‏.‏ ‏}‏إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله‏}‏ وقرأ عيسى بن عمر‏{‏أنهم‏}‏ بفتح الهمزة، يعني لأنهم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 31 ‏)‏

‏{‏يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين‏}‏

قوله تعالى‏{‏يا بني آدم‏}‏ هو خطاب لجميع العالم، وإن كان المقصود بها من كان يطوف من العرب بالبيت عريانا؛ فإنه عام في كل مسجد للصلاة‏.‏ لأن العبرة للعموم لا‏!‏ للسبب‏.‏ ومن العلماء من أنكر أن يكون المراد به الطواف؛ لأن الطواف لا يكون إلا في مسجد واحد، والذي يعم كل مسجد هو الصلاة‏.‏ وهذا قول من خفي عليه مقاصد الشريعة‏.‏ وفي صحيح مسلم عن ابن عباس قال‏:‏ كانت المرأة تطوف بالبيت وهي عريانة وتقول‏:‏ من يعيرني تِطوافا‏؟‏ تجعله على فرجها‏.‏ وتقول‏:‏

اليوم يبدو بعضه أو كله وما بدا منه فلا أحله

فنزلت هذه الآية‏{‏خذوا زينتكم عند كل مسجد‏}‏‏.‏ التطواف ‏(‏بكسر التاء‏)‏‏.‏ وهذه المرأة هي ضباعة بنت عامر بن قرط؛ قاله القاضي عياض‏.‏ وفي صحيح مسلم أيضا عن هشام بن عروة عن أبيه قال‏:‏ كانت العرب تطوف بالبيت عراة إلا الحمس، والحمس قريش وما ولدت، كانوا يطوفون بالبيت عراة إلا أن تعطيهم الحمس ثيابا فيعطي الرجال الرجال والنساء النساء‏.‏ وكانت الحمس لا يخرجون من المزدلفة، وكان الناس كلهم يقفون بعرفات‏.‏ في غير مسلم‏:‏ ويقولون نحن أهل الحرم، فلا ينبغي لأحد من العرب أن يطوف إلا في ثيابنا، ولا يأكل إذا دخل أرضنا إلا من طعامنا‏.‏ فمن لم يكن له من العرب صديق بمكة يعيره ثوبا ولا يسار يستأجره به كان بين أحد أمرين‏:‏ إما أن يطوف بالبيت عريانا، وإما أن يطوف في ثيابه؛ فإذا فرغ من طوافه ألقى ثوبه عنه فلم يمسه أحد‏.‏ وكان ذلك الثوب يسمى اللقى؛ قال قائل من العرب‏:‏

كفى حزنا كري عليه كأنه لقى بين أيدي الطائفين حريم

فكانوا على تلك الجهالة والبدعة والضلالة حتى بعث الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم؛ فأنزل الله تعالى‏{‏يا بني آدم خذوا زينتكم‏}‏ الآية‏.‏ وأذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ألا لا يطوف بالبيت عريان‏.‏ قلت‏:‏ ومن قال بأن المراد الصلاة فزينتها النعال؛ لما رواه كرز بن وبرة عن عطاء عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ذات يوم‏:‏ ‏(‏خذوا زينة الصلاة‏)‏ قيل‏:‏ وما زينة الصلاة‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏البسوا نعالكم فصلوا فيها‏)‏‏.‏

دلت الآية على وجوب ستر العورة كما تقدم‏.‏ وذهب جمهور أهل العلم إلى أنها فرض من فروض الصلاة‏.‏ وقال الأبهري هي فرض في الجملة، وعلى الإنسان أن يسترها عن أعين الناس في الصلاة وغيرها‏.‏ وهو الصحيح؛ لقوله عليه السلام للمسور بن مخرمة‏:‏ ‏(ارجع إلى ثوبك فخذه ولا تمشوا عراة‏)‏‏.‏ أخرجه مسلم‏.‏ وذهب إسماعيل القاضي إلى أن ستر العورة من سنن الصلاة، واحتج بأنه لو كان فرضا في الصلاة لكان العريان لا يجوز له أن يصلي؛ لأن كل شيء من فروض الصلاة يجب الإتيان به مع القدرة عليه، أو بدله مع عدمه، أو تسقط الصلاة جملة، وليس كذلك‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ وإذا قلنا إن ستر العورة فرض في الصلاة فسقط ثوب إمام فانكشف دبره وهو راكع فرفع رأسه فغطاه أجزأه؛ قاله ابن القاسم‏.‏ وقال سحنون‏:‏ وكل من نظر إليه من المأمومين أعاد‏.‏ وروي عن سحنون أيضا‏:‏ أنه يعيد ويعيدون؛ لأن ستر العورة شرط من شروط الصلاة، فإذا ظهرت بطلت الصلاة‏.‏ أصله الطهارة‏.‏ قال القاضي ابن العربي‏:‏ أما من قال، إن صلاتهم لا تبطل فإنهم لم يفقدوا شرطا، وأما من قال إن أخذه مكانه صحت صلاته وتبطل صلاة من نظر إليه فصحيفة يجب محوها ولا يجوز الاشتغال بها‏.‏ وفي البخاري والنسائي عن عمرو بن سلمة قال‏:‏ لما رجع قومي من عند النبي صلى الله عليه وسلم قالوا قال‏:‏ ‏(‏ليؤمكم أكثركم قراءة للقرآن‏)‏‏.‏ قال‏:‏ فدعوني فعلموني الركوع والسجود؛ فكنت أصلي بهم وكانت علي بردة مفتوقة، وكانوا يقولون لأبي‏:‏ ألا تغطي عنا است ابنك‏.‏ لفظ النسائي‏.‏ وثبت عن سهل بن سعد قال‏:‏ لقد كانت الرجال عاقدي أزرهم في أعناقهم من ضيق الأزر خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة كأمثال الصبيان؛ فقال قائل‏:‏ يا معشر النساء، لا ترفعن رؤوسكن حتى ترفع الرجال‏.‏ أخرجه البخاري والنسائي وأبو داود‏.‏

واختلفوا إذا رأى عورة نفسه؛ فقال الشافعي‏:‏ إذا كان الثوب ضيقا يزره أو يخلله بشيء لئلا يتجافى القميص فترى من الجيب العورة، فإن لم يفعل ورأى عورة نفسه أعاد الصلاة‏.‏ وهو قول أحمد‏.‏ ورخص مالك في الصلاة في القميص محلول الأزرار، ليس عليه سراويل‏.‏ وهو قول أبي حنيفة وأبي ثور‏.‏ وكان سالم يصلي محلول الأزرار‏.‏ وقال داود الطائي‏:‏ إذا كان عظيم اللحية فلا بأس به‏.‏ وحكى معناه الأثرم عن أحمد‏.‏ فإن كان إماما فلا يصلي إلا بردائه؛ لأنه من الزينة‏.‏ وقيل‏:‏ من الزينة الصلاة في النعلين؛ رواه أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يصح‏.‏ وقيل‏:‏ زينة الصلاة رفع الأيدي في الركوع وفي الرفع منه‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ لكل شيء زينة وزينة الصلاة التكبير ورفع الأيدي‏.‏ وقال عمر رضي الله عنه‏:‏ إذا وسع الله عليكم فأوسعوا على أنفسكم، جمع رجل عليه ثيابه، صلى في إزار ورداء، في إزار وقميص، في إزار وقباء، في سراويل ورداء، في سراويل وقميص، في سراويل وقباء - وأحسبه قال‏:‏ في تبان وقميص - في تبان ورداء، في تبان وقباء‏.‏ رواه البخاري والدارقطني‏.‏

قوله تعالى‏{‏وكلوا واشربوا ولا تسرفوا‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ أحل الله في هذه الآية الأكل والشرب ما لم يكن سرفا أو مخيلة‏.‏ فأما ما تدعو الحاجة إليه، وهو ما سد الجوعة وسكن الظمأ، فمندوب إليه عقلا وشرعا، لما فيه من حفظ النفس وحراسة الحواس؛ ولذلك ورد الشرع بالنهي عن الوصال؛ لأنه يضعف الجسد ويميت النفس، ويضعف عن العبادة، وذلك يمنع منه الشرع وتدفعه العقل‏.‏ وليس لمن منع نفسه قدر الحاجة حظ من بر ولا نصيب من زهد؛ لأن ما حرمها من فعل الطاعة بالعجز والضعف أكثر ثوابا وأعظم أجرا‏.‏ وقد اختلف في الزائد على قدر الحاجة على قولين‏:‏ فقيل حرام، وقيل مكروه‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ وهو الصحيح؛ فإن قدر الشبع يختلف باختلاف البلدان والأزمان والأسنان والطعمان‏.‏ ثم قيل‏:‏ في قلة الأكل منافع كثيرة؛ منها أن يكون الرجل أصح جسما وأجود حفظا وأزكى فهما وأقل نوما وأخف نفسا‏.‏ وفي كثرة الأكل كظ المعدة ونتن التخمة، ويتولد منه الأمراض المختلفة، فيحتاج من العلاج أكثر مما يحتاج إليه القليل الأكل‏.‏ وقال بعض الحكماء‏:‏ أكبر الدواء تقدير الغذاء‏.‏ وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى بيانا شافيا يغني عن كلام الأطباء فقال‏:‏ ‏(‏ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطن بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه فإن كان لا محالة فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه‏)‏‏.‏ خرجه الترمذي من حديث المقدام بن معدي كرب‏.‏ قال علماؤنا‏:‏ لو سمع بقراط هذه القسمة لعجب من هذه الحكمة‏.‏ ويذكر أن الرشيد كان له طبيب نصراني حاذق فقال لعلي بن الحسين‏:‏ ليس في كتابكم من علم الطب شيء، والعلم علمان‏:‏ علم الأديان وعلم الأبدان‏.‏ فقال له علي‏:‏ قد جمع الله الطب كله في نصف آية من كتابنا‏.‏ فقال له‏:‏ ما هي‏؟‏ قال قوله عز وجل‏{‏وكلوا وأشربوا ولا تسرفوا‏}‏‏.‏ فقال النصراني‏:‏ ولا يؤثر عن رسولكم شيء من الطب‏.‏ فقال علي‏:‏ جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الطب في ألفاظ يسيرة‏.‏ قال‏:‏ ما هي‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏المعدة بيت الأدواء والحمية رأس كل دواء وأعط كل جسد ما عودته‏)‏‏.‏ فقال النصراني‏:‏ ما ترك كتابكم ولا نبيكم لجالينوس طبا‏.‏

قلت‏:‏ ويقال إن معالجة المريض نصفان‏:‏ نصف دواء ونصف حمية‏:‏ فإن اجمعا فكأنك بالمريض قد برأ وصح‏.‏ وإلا فالحمية به أولى؛ إذ لا ينفع دواء مع ترك الحمية‏.‏ ولقد تنفع الحمية مع ترك الدواء‏.‏ ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أصل كل دواء الحمية‏)‏‏.‏ والمعني بها - والله أعلم - أنها تغني عن كل دواء؛ ولذلك يقال‏:‏ إن الهند جل معالجتهم الحمية، يمتنع المريض عن الأكل والشراب والكلام عدة أيام فيبرأ ويصح‏.‏

روى مسلم عن ابن عمر قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏الكافر يأكل في سبعة أمعاء والمؤمن يأكل في مِعىً واحد‏)‏‏.‏ وهذا منه صلى الله عليه وسلم حض على التقليل من الدنيا والزهد فيها والقناعة بالبلغة‏.‏ وقد كانت العرب تمتدح بقلة الأكل وتذم بكثرته‏.‏ كما قال قائلهم‏:‏

تكفيه فلذة كبد إن ألم بها من الشواء ويروي شربه الغمر

وقالت أم زرع في ابن أبي زرع‏:‏ ويشبعه ذراع الجفرة‏.‏ وقال حاتم الطائي يذم بكثرة الأكل‏:‏

فإنك إن أعطيت بطنك سؤله وفرجك نالا منتهى الذم أجمعا

وقال الخطاب‏:‏ معنى قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏المؤمن يأكل في معى واحد‏)‏ أنه يتناول دون شبعه، ويؤثر على نفسه ويبقي من زاده لغيره؛ فيقنعه ما أكل‏.‏ والتأويل الأول أولى والله أعلم‏.‏ وقيل في قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏والكافر يأكل في سبعة أمعاء‏)‏ ليس على عمومه؛ لأن المشاهدة تدفعه، فإنه قد يوجد كافر أقل أكلا من مؤمن، ويسلم الكافر فلا يقل أكله ولا يزيد‏.‏ وقيل‏:‏ هو إشارة إلى معين‏.‏ ضاف النبي صلى الله عليه وسلم ضيف كافر يقال‏:‏ إنه الجهجاه الغفاري‏.‏ وقيل‏:‏ ثمامة بن أثال‏.‏ وقيل‏:‏ نضلة بن عمرو الغفاري‏.‏ وقيل‏:‏ بصرة بن أبي بصرة الغفاري‏.‏ فشرب حلاب سبع شياه، ثم إنه أصبح فأسلم فشرب حلاب شاة فلم يستتمه؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك‏.‏ فكأنه قال‏:‏ هذا الكافر‏.‏ والله أعلم‏.‏ وقيل‏:‏ إن القلب لما تنور بنور التوحيد نظر إلى الطعام بعين التقوي على الطاعة، فأخذ منه قدر الحاجة، وحين كان مظلما بالكفر كان أكله كالبهيمة ترتع حتى تثلط‏.‏ واختلف في هذه الأمعاء، هل هي حقيقة أم لا‏؟‏ فقبل‏:‏ حقيقة، ولها أسماء معروفة عند أهل العلم بالطب والتشريح‏.‏ وقيل‏:‏ هي كنايات عن أسباب سبعة يأكل بها النهم‏:‏ يأكل للحاجة والخبر والشم والنظر واللمس والذوق ويزيد استغناما‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى أن يأكل أكل من له سبعة أمعاء‏.‏ والمؤمن بخفة أكله يأكل أكل من ليس له إلا معى واحد؛ فيشارك الكافر بجزء من أجزاء أكله، ويزيد الكافر عليه بسبعة أمثال‏.‏ والمعى في هذا الحديث هو المعدة‏.‏

وإذا تقرر هذا فاعلم أنه يستحب للإنسان غسل اليد قبل الطعام وبعده؛ لقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏الوضوء قبل الطعام وبعده بركة‏)‏‏.‏ وكذا في التوراة‏.‏ رواه زاذان عن سلمان‏.‏ وكان مالك يكره غسل اليد النظيفة‏.‏ والاقتداء بالحديث أولى‏.‏ ولا يأكل طعاما حتى يعرف أحارا هو أم باردا‏؟‏ فإنه إن كان حارا فقد يتأذى‏.‏ وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏أبردوا بالطعام فإن الحار غير ذي بركة‏)‏ حديث صحيح‏.‏ ولا يشمه فإن ذلك من عمل البهائم، بل إن اشتهاه أكله، وإن كرهه تركه، ويصغر اللقمة ويكثر مضغها لئلا يعد شرها‏.‏ ويسمي الله تعالى في أوله ويحمده في آخره‏.‏ ولا ينبغي أن يرفع صوته بالحمد إلا أن يكون جلساؤه قد فرغوا من الأكل؛ لأن في رفع الصوت منعا لهم من الأكل‏.‏ وآداب الأكل كثيرة، هذه جملة منها‏.‏ وسيأتي بعضها في سورة ‏}‏هود‏}‏ إن شاء الله تعالى‏.‏ وللشراب أيضا آداب معروفة، تركنا ذكرها لشهرتها‏.‏ وفي صحيح مسلم عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه وإذا شرب فليشرب بيمينه فإن الشيطان يأكل بشمال ويشرب بشماله‏)‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏ولا تسرفوا‏}‏ أي في كثرة الأكل، وعنه يكون كثرة الشرب، وذلك يثقل المعدة، ويثبط الإنسان عن خدمة ربه، والأخذ بحظه من نوافل الخير‏.‏ فإن تعدى ذلك إلى ما فوقه مما يمنعه القيام الواجب عليه حرم عليه، وكان قد أسرف في مطعمه ومشربه‏.‏ روى أسد بن موسى من حديث عون بن أبي جحيفة عن أبيه قال‏:‏ أكلت ثريدا بلحم سمين، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أتجشأ؛ فقال‏:‏ ‏(‏اكفف عليك من جشائك أبا جحيفة فإن أكثر الناس شبعا في الدنيا أطولهم جوعا يوم القيامة‏)‏‏.‏ فما أكل أبو جحيفة بملء بطنه حتى فارق الدنيا، وكان إذا تغدى لا يتعشى، وإذا تعشى لا يتغدى‏.‏ قلت‏:‏ وقد يكون هذا معنى قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏المؤمن يأكل في معى واحد‏)‏ أي التام الإيمان؛ لأن من حسن إسلامه وكمل إيمانه كأبي جحيفة تفكر فيما يصير إليه من أمر الموت وما بعده؛ فيمنعه الخوف والإشفاق من تلك الأهوال من استيفاء شهواته‏.‏ والله أعلم‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ معنى ‏}‏ولا تسرفوا‏}‏ لا تأكلوا حراما‏.‏ وقيل‏:‏ ‏(‏من السرف أن تأكل كل ما اشتهيت‏)‏‏.‏ رواه أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم، خرجه ابن ماجة في سننه‏.‏ وقيل‏:‏ من الإسراف الأكل بعد الشبع‏.‏ وكل ذلك محظور‏.‏ وقال لقمان لابنه‏:‏ يا بني لا تأكل شبعا فوق شبع، فإنك إن تنبذه للكلب خير من أن تأكله‏.‏ وسأل سمرة بن جندب عن ابنه ما فعل‏؟‏ قالوا‏:‏ بشم البارحة‏.‏ قال‏:‏ بشم‏!‏ فقالوا‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ أما إنه لو مات ما صليت عليه‏.‏ وقيل‏:‏ إن العرب في الجاهلية كانوا لا يأكلون دسما في أيام حجهم، ويكتفون باليسير من الطعام، ويطوفون عراة‏.‏ فقيل لهم‏{‏خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا في تحريم ما لم يحرم عليكم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 32 ‏)‏

‏{‏قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون‏}‏

قوله تعالى‏{‏قل من حرم زينة الله‏}‏ بين أنهم حرموا من تلقاء أنفسهم ما لم يحرمه الله عليهم‏.‏ والزينة هنا الملبس الحسن، إذا قدر عليه صاحبه‏.‏ وقيل‏:‏ جميع الثياب؛ كما روي عن عمر‏:‏ إذا وسع الله عليكم فأوسعوا‏.‏ وقد تقدم‏.‏ وروي عن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب شيخ مالك رضي الله عنهم أنه كان يلبس كساء خز بخمسين دينارا، يلبسه في الشتاء، فإذا كان في الصيف تصدق به، أو باعه فتصدق بثمنه، وكان يلبس في الصيف ثوبين من متاع بمصر ممشقين ويقول‏{‏قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق‏}‏‏.‏

وإذا كان هذا فقد دلت الآية على لباس الرفيع من الثياب، والتجمل بها في الجمع والأعياد، وعند لقاء الناس ومزاورة الإخوان‏.‏ قال أبو العالية‏:‏ كان المسلمون إذا تزاوروا تجملوا‏.‏ وفي صحيح مسلم من حديث عمر بن الخطاب أنه رأى حلة سيراء تباع عند باب المسجد، فقال‏:‏ يا رسول الله، لو اشتريتها ليوم الجمعة وللوفود إذا قدموا عليك‏؟‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إنما يلبس هذا من لا خلاق له في الآخرة‏)‏‏.‏ فما أنكر عليه ذكر التجمل، وإنما أنكر عليه كونها سيراء‏.‏ وقد اشترى تميم الداري حلة بألف درهم كان يصلي فيها‏.‏ وكان مالك بن دينار يلبس الثياب العدنية الجياد‏.‏ وكان ثوب أحمد بن حنبل يشترى بنحو الدينار‏.‏ أين هذا ممن يرغب عنه ويؤثر لباس الخشن من الكتان والصوف من الثياب‏.‏ ويقول‏{‏ولباس التقوى ذلك خير‏}‏الأعراف‏:‏ 26‏]‏ هيهات‏!‏ أترى من ذكرنا تركوا لباس التقوى، لا والله‏!‏ بل هم أهل التقوى وأولو المعرفة والنهى، وغيرهم أهل دعوى، وقلوبهم خالية من التقوى‏.‏ قال خالد بن شوذب‏:‏ شهدت الحسن وأتاه فرقد، فأخذه الحسن بكسائه فمده إليه وقال‏:‏ يا فريقد، يا ابن أم فريقد، إن البر ليس في هذا الكساء، إنما البر ما وقر في الصدر وصدقه العمل‏.‏ ودخل أبو محمد ابن أخي معروف الكرخي على أبي الحسن بن يسار وعليه جبة صوف، فقال له أبو الحسن‏:‏ يا أبا محمد، صوفت قلبك أو جسمك‏؟‏ صوف قلبك والبس القوهي على القوهي‏.‏ وقال رجل للشبلي‏:‏ قد ورد جماعة من أصحابك وهم في الجامع، فمضى فرأى عليهم المرقعات والفوط، فأنشأ يقول‏:‏

أما الخيام فإنها كخيامهم وأرى نساء الحي غير نسائه

قال أبو الفرج بن الجوزي رحمه الله‏:‏ وأنا أكره ليس الفوط والمرقعات لأربعة أوجه‏:‏ أحدها‏:‏ أنه ليس من لبس السلف، وإنما كانوا يرقعون ضرورة‏.‏ والثاني‏:‏ أنه يتضمن ادعاء الفقر، وقد أمر الإنسان أن يظهر أثر نعم الله عليه‏.‏ والثالث‏:‏ إظهار التزهد؛ وقد أمرنا بستره‏.‏ والرابع‏:‏ أنه تشبه بهؤلاء المتزحزحين عن الشريعة‏.‏ ومن تشبه بقوم فهو منهم وقال الطبري‏:‏ ولقد أخطأ من أثر لباس الشعر والصوف على لباس القطن والكتان مع وجود السبيل إليه من حله‏.‏ ومن أكل البقول والعدس واختاره على خبز البر‏.‏ ومن ترك أكل اللحم خوفا من عارض شهوة النساء‏.‏ وسئل بشر بن الحارث عن لبس الصوف، فشق عليه وتبينت الكراهة في وجهه ثم قال‏:‏ لبس الخزز والمعصفر أحب إلي من لبس الصوف في الأمصار‏.‏ وقال أبو الفرج‏:‏ وقد كان السلف يلبسون الثياب المتوسطة، لا المترفعة ولا الدون، ويتخيرون أجودها للجمعة والعيد وللقاء الإخوان، ولم يكن تخير الأجود عندهم قبيحا‏.‏ وأما اللباس الذي يزري بصاحبه فإنه يتضمن إظهار الزهد وإظهار الفقر، وكأنه لسان شكوى من الله تعالى، ويوجب احتقار اللابس؛ وكل ذلك مكروه منهي عنه‏.‏ فإن قال قائل‏:‏ تجويد اللباس هوى النفس وقد أمرنا بمجاهدتها، وتزين للخلق وقد أمرنا أن تكون أفعالنا لله لا للخلق‏.‏ فالجواب ليس كل ما تهواه النفس يذم، وليس كل ما يتزين به للناس يكره، وإنما ينهي عن ذلك إذا كان الشرع قد نهى عنه أو على وجه الرياء في باب الدين‏.‏ فإن الإنسان يجب أن يرى جميلا‏.‏ وذلك حظ للنفس لا يلام فيه‏.‏ ولهذا يسرح شعره وينظر في المرآة ويسوي عمامته ويلبس بطانة الثوب الخشنة إلى داخل وظهارته الحسنة إلى خارج‏.‏ وليس في شيء من هذا ما يكره ولا يذم‏.‏ وقد روى مكحول عن عائشة قالت‏:‏ كان نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظرونه على الباب، فخرج يريدهم، وفي الدار ركوة فيها ماء؛ فجعل ينظر في الماء ويسوي لحيته وشعره‏.‏ فقلت‏:‏ يا رسول الله، وأنت تفعل هذا‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏نعم إذا خرج الرجل إلى إخوانه فليهيئ من نفسه فإن الله جميل يحب الجمال‏)‏‏.‏ وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر‏)‏‏.‏ فقال رجل‏:‏ إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏إن الله جميل يحب الجمال الكبر بطر الحق وغمط الناس‏)‏‏.‏ والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، تدل كلها على النظافة وحسن الهيئة‏.‏ وقد روى محمد بن سعد أخبرنا الفضل بن دكين قال حدثنا مندل عن ثور عن خالد بن معدان قال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسافر بالمشط والمرآة والدهن والسواك والكحل‏.‏ وعن ابن جريج‏:‏ مشط عاج يمتشط به‏.‏ قال ابن سعد‏:‏ وأخبرنا قبيصة بن عقبة قال حدثنا سفيان عن ربيع بن صبيح عن يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك قال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر دهن رأسه ويسرح لحيته بالماء‏.‏ أخبرنا يزيد بن هارون حدثنا عباد بن منصور عن عكرمة عن ابن عباس قال‏:‏ كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم مكحلة يكتحل بها عند النوم ثلاثا في كل عين‏.‏

قوله تعالى‏{‏والطيبات من الرزق‏}‏ الطيبات اسم عام لما طاب كسبا وطعما‏.‏ قال ابن عباس وقتادة‏:‏ يعني بالطيبات من الرزق ما حرم أهل الجاهلية من البحائر والسوائب والوصائل والحوامي‏.‏ وقيل‏:‏ هي كل مستلذ من الطعام‏.‏ وقد اختلف في ترك الطيبات والإعراض عن اللذات؛ فقال قوم‏:‏ ليس ذلك من القربات، والفعل والترك يستوي في المباحات‏.‏ وقال آخرون‏:‏ ليس قربة في ذاته، وإنما هو سبيل إلى الزهد في الدنيا، وقصر الأمل فيها، وترك التكلف لأجلها؛ وذلك مندوب إليه، والمندوب قربة‏.‏ وقال آخرون‏:‏ ونقل عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوله‏:‏ لو شئنا لاتخذنا صلاء وصلائق وصنابا، ولكني سمعت الله تعالى يذم أقواما فقال‏{‏أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا‏}‏الأحقاف‏:‏ 20‏]‏‏.‏ ويروى ‏}‏صرائق‏}‏ بالراء، وهما جميعا الجرادق‏.‏ والصلائق ‏(‏باللام‏)‏‏:‏ ما يلصق من اللحوم والبقول‏.‏ والصلاء ‏(‏بكسر الصاد والمد‏)‏‏:‏ الشواء‏:‏ والصناب‏:‏ الخردل بالزبيب‏.‏ وفرق آخرون بين حضور ذلك كله بكلفة وبغير كلفة‏.‏ قال أبو الحسن علي بن المفضل المقدسي شيخ أشياخنا‏:‏ وهو الصحيح إن شاء الله عز وجل؛ فإنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه امتنع من طعام لأجل طيبه قط، بل كان يأكل الحلوى والعسل والبطيخ والرطب، وإنما يكره التكلف لما فيه من التشاغل بشهوات الدنيا عن مهمات الآخرة‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

قلت‏:‏ وقد كره بعض الصوفية أكل الطيبات؛ واحتج بقول عمر رضي الله عنه‏:‏ إياكم واللحم فإن له ضراوة كضرواة الخمر‏.‏ والجواب أن هذا من عمر قول خرج على من خشي منه إيثار التنعم في الدنيا، والمداومة على الشهوات، وشفاء النفس من اللذات، ونسيان الآخرة والإقبال على الدنيا، ولذلك كان يكتب عمر إلى عمال‏:‏ إياكم والتنعم وزي أهل العجم، واخشوشنوا‏.‏ ولم يرد رضي الله عنه تحريم شيء أحله الله، ولا تحظير ما أباحه الله تبارك اسمه‏.‏ وقول الله عز وجل أولى ما امتثل واعتمد عليه‏.‏ قال الله تعالى‏{‏قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق‏}‏‏.‏ وقال عليه السلام‏:‏ ‏(‏سيد آدام الدنيا والآخرة اللحم‏)‏‏.‏ وقد روى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأكل البطيخ بالرطب ويقول‏:‏ ‏(‏يكسر حر هذا برد هذا وبرد هذا حر هذا‏)‏‏.‏ والطبيخ لغة في البِطيخ، وهو من المقلوب‏.‏ وقد مضى في ‏}‏المائدة‏}‏ الرد على من آثر أكل الخشن من الطعام‏.‏ وهذه الآية ترد عليه وغيرها‏:‏ والحمد لله‏.‏

قوله تعالى‏{‏قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا‏}‏ يعني بحقها من توحيد الله تعالى والتصديق له؛ فإن الله ينعم ويرزق، فإن وحده المنعم عليه وصدقه فقد قام بحق النعمة، وإن كفر فقد أمكن الشيطان من نفسه‏.‏ وفي صحيح الحديث ‏(‏لا أحد أصبر على أذى من الله يعافيهم وير زقهم وهم يدعون له الصاحبة والولد‏)‏‏.‏ وتم الكلام على ‏}‏الحياة الدنيا‏}‏‏.‏ ثم قال ‏}‏خالصة‏}‏ بالرفع وهي قراءة ابن عباس ونافع‏.‏ ‏}‏خالصة يوم القيامة‏}‏ أي يخلص الله الطيبات في الآخرة للذين آمنوا، وليس للمشركين فيها شيء كما كان لهم في الدنيا من الاشتراك فيها‏.‏ ومجاز الآية‏:‏ قل هي للذين آمنوا مشتركة في الدنيا مع غيرهم، وهي للمؤمنين خالصة يوم القيامة‏.‏ فخالصة مستأنف على خبر مبتدأ مضمر‏.‏ وهذا قول ابن عباس والضحاك والحسن وقتادة والسدي وابن جريج وابن زيد‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى أن هذه الطيبات الموجودات في الدنيا هي خالصة يوم القيامة، للمؤمنين في الدنيا؛ وخلوصها أنهم لا يعاقبون عليها ولا يعذبون فقوله‏{‏في الحياة الدنيا‏}‏ متعلق بـ ‏}‏آمنوا‏}‏‏.‏ وإلى هذا يشير تفسير سعيد بن جبير‏.‏ وقرأ الباقون بالنصب على الحال والقطع؛ لأن الكلام قد تم دونه‏.‏ ولا يجوز الوقف على هذه القراءة على ‏}‏الدنيا‏}‏؛ لأن ما بعده متعلق بقول ‏}‏للذين آمنوا‏}‏ حال منه؛ بتقدير قل هي ثابتة للذين آمنوا في الحياة الدنيا في حال خلوصها لهم يوم القيامة؛ قاله أبو علي‏.‏ وخبر الابتداء ‏}‏للذين آمنوا‏}‏‏.‏ والعالم في الحال ما في اللام من معنى الفعل في قوله‏{‏للذين‏}‏ واختار سيبويه النصب لتقدم الظرف‏.‏ ‏}‏كذلك نفصل الآيات‏}‏ أي كالذي فصلت لكم الحلال والحرام أفصل لكم ما تحتاجون إليه‏.‏